فصل: تفسير الآيات رقم (113- 120)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير البيضاوي المسمى بـ «أنوار التنزيل وأسرار التأويل» ***


تفسير الآية رقم ‏[‏74‏]‏

‏{‏وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آَزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آَلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ‏(‏74‏)‏‏}‏

‏{‏وَإِذْ قَالَ إبراهيم لأَبِيهِ ءازَرَ‏}‏ هو عطف بيان لأبيه، وفي كتب التواريخ أن اسمه تارح فقيل هما علمان له كإسرائيل ويعقوب، وقيل العلم تارح وآزر وصف معناه الشيخ أو المعوج، ولعل منع صرفه لأنه أعجمي حمل على موازنه أو نعت مشتق من الآزر أو الوزر، والأقرب أنه علم أعجمي على فاعل كعابر وشالخ، وقيل اسم صنم يعبده فلقب به للزوم عبادته، أو أطلق عليه بحذف المضاف‏.‏ وقيل المراد به الصنم ونصبه بفعل مضمر يفسره ما بعده أي أتعبد آزر ثم قال‏:‏ ‏{‏أَتَتَّخِذُ أَصْنَاماً آلِهَةً‏}‏ تفسيراً وتقريراً‏.‏ ويدل عليه أنه قرئ «أزراً»، تتخذ أصناماً بفتح همزة آزر وكسرها وهو اسم صنم‏.‏ وقرأ يعقوب بالضم على النداء وهو يدل على أنه علم‏.‏ ‏{‏إِنّى أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِى ضلال‏}‏ عن الحق‏.‏ ‏{‏مُّبِينٌ‏}‏ ظاهر الضلالة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏75‏]‏

‏{‏وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ ‏(‏75‏)‏‏}‏

‏{‏وَكَذَلِكَ نُرِى إبراهيم‏}‏ ومثل هذا التبصير نبصره، وهو حكاية حال ماضية‏.‏ وقرئ‏:‏ «ترى» بالتاء ورفع الملكوت ومعناه تبصره دلائل الربوبية‏.‏ ‏{‏مَلَكُوتَ السموات والأرض‏}‏ ربوبيتها وملكها‏.‏ وقيل عجائبها وبدائعها والملكوت أعظم الملك والتاء فيه للمبالغة‏.‏ ‏{‏وَلِيَكُونَ مِنَ الموقنين‏}‏ أي ليستدل وليكون، أو وفعلنا ذلك ليكون‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏76‏]‏

‏{‏فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآَفِلِينَ ‏(‏76‏)‏‏}‏

‏{‏فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اليل رَأَى كَوْكَباً قَالَ هذا رَبّى‏}‏ تفصيل وبيان لذلك‏.‏ وقيل عطف على قال إبراهيم وكذلك نري اعتراض فإن أباه وقومه كانوا يعبدون الأصنام والكواكب، فأراد أن ينبههم على ضلالتهم ويرشدهم إلى الحق من طريق النظر والاستدلال، وجن عليه الليل ستره بظلامه والكواكب كان الزهرة أو المشتري وقوله‏:‏ ‏{‏هذا رَبّى‏}‏ على سبيل الوضع فإن المستدل على فساد قول يحكيه على ما يقوله الخصم ثم يكر عليه بالإِفساد، أو على وجه النظر والاستدلال، وإنما قاله زمان مراهقته أو أول أوان بلوغه‏.‏ ‏{‏فَلَمَّا أَفَلَ‏}‏ أي غاب‏.‏ ‏{‏قَالَ لا أُحِبُّ الآفلين‏}‏ فضلاً عن عبادتهم فإن الانتقال والاحتجاب بالأستار يقتضي الأمان والحدوث وينافي الألوهية‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏77‏]‏

‏{‏فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ ‏(‏77‏)‏‏}‏

‏{‏فَلَمَّا رَأَى القمر بَازِغاً‏}‏ مبتدئاً في الطلوع‏.‏ ‏{‏قَالَ هذا رَبّى فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِى رَبّى لأَكُونَنَّ مِنَ القوم الضالين‏}‏ استعجز نفسه واستعان بربه في درك الحق، فإنه لا يهتدي إليه إلا بتوفيقه إرشاداً لقومه وتنبيهاً لهم على أن القمر أيضاً لتغير حاله لا يصلح للألوهية، وأن من اتخذه إلهاً فهو ضال‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏78‏]‏

‏{‏فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ ‏(‏78‏)‏‏}‏

‏{‏فَلَماَّ رَأَى الشمس بَازِغَةً قَالَ هذا رَبّى‏}‏ ذكر اسم الإشارة لتذكير الخبر وصيانة للرب عن شبهة التأنيث‏.‏ ‏{‏هذا أَكْبَرُ‏}‏ كبره استدلالاً أو إظهاراً لشبهة الخصم‏.‏ ‏{‏فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ ياقوم إِنّى بَرِيءٌ مّمَّا تُشْرِكُونَ‏}‏ من الأجرام المحدثة المحتاجة إلى محدث يحدثها ومخصص يخصصها بما تختص به، ثم لما تبرأ منها توجه إلى موجدها ومبدعها الذي دلت هذه الممكنات عليه فقال‏:‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏79- 80‏]‏

‏{‏إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ‏(‏79‏)‏ وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ ‏(‏80‏)‏‏}‏

‏{‏إِنّى وَجَّهْتُ وَجْهِىَ لِلَّذِى فَطَرَ السموات والأرض حَنِيفاً وَمَا أَنَاْ مِنَ المشركين‏}‏ وإنما احتج بالأفول دون البزوغ مع أنه أيضاً انتقال لتعدد دلالته، ولأنه رأى الكوكب الذي يعبدونه في وسط السماء حين حاول الاستدلال‏.‏

‏{‏وَحَاجُّهُ قَوْمُهُ‏}‏ وخاصموه في التوحيد‏.‏ ‏{‏قَالَ أَتُحَاجُّونّى فِى الله‏}‏ في وحدانيته سبحانه وتعالى‏.‏ وقرأ نافع وابن عامر بخلاف عن هشام بتخفيف النون‏.‏ ‏{‏وَقَدْ هَدَانِ‏}‏ إلى توحيده‏.‏ ‏{‏وَلاَ أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ‏}‏ أي لا أخاف معبوداتكم في وقت لأنها لا تضر بنفسها ولا تنفع‏.‏ ‏{‏إِلاَّ أَن يَشَاء رَبّى شَيْئاً‏}‏ أن يصيبني بمكروه من جهتها، ولعله جواب لتخويفهم إياه من آلهتهم وتهديد لهم بعذاب الله‏.‏ ‏{‏وَسِعَ رَبّى كُلَّ شَئ عِلْماً‏}‏ كأنه علة الاستثناء، أي أحاط به علماً فلا يبعد أن يكون في علمه أن يحيق بي مكروه من جهتها‏.‏ ‏{‏أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ‏}‏ فتميزوا بين الصحيح والفاسد والقادر والعاجز‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏81‏]‏

‏{‏وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ‏(‏81‏)‏‏}‏

‏{‏وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ‏}‏ ولا يتعلق به ضر‏.‏ ‏{‏وَلاَ تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بالله‏}‏ وهو حقيق بأن يخاف منه كل الخوف لأنه إشراك للمصنوع بالصانع، وتسوية بين المقدور العاجز بالقادر الضار النافع‏.‏ ‏{‏مَا لَمْ يُنَزّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سلطانا‏}‏ ما لم ينزل بإشراكه كتاباً، أو لم ينصب عليه دليلاً‏.‏ ‏{‏فَأَيُّ الفريقين أَحَقُّ بالأمن‏}‏ أي الموحدون أو المشركون، وإنما لم يقل أينا أنا أم أنتم احترازاً من تزكية نفسه‏.‏ ‏{‏إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ‏}‏ ما يحق أن يخاف منه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏82‏]‏

‏{‏الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ ‏(‏82‏)‏‏}‏

‏{‏الذين ءامَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إيمانهم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأمن وَهُمْ مُّهْتَدُونَ‏}‏ استئناف منه أو من الله بالجواب عما استفهم عنه، والمراد بالظلم ها هنا الشرك لما روي أن الآية لما نزلت شق ذلك على الصحابة وقالوا‏:‏ أينا لم يظلم نفسه فقال عليه الصلاة والسلام «ليس ما تظنون إنما هو ما قال لقمان لابنه ‏{‏يابنى لاَ تُشْرِكْ بالله إِنَّ الشرك لَظُلْمٌ عَظِيمٌ‏}‏» وليس الإِيمان به أن يصدق بوجود الصانع الحكيم ويخلط بهذا التصديق الإِشراك به‏.‏ وقيل المعصية‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏83‏]‏

‏{‏وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آَتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ ‏(‏83‏)‏‏}‏

‏{‏وَتِلْكَ‏}‏ إشارة إلى ما احتج به إبراهيم على قومه من قوله‏:‏ ‏{‏فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اليل‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏وَهُمْ مُّهْتَدُونَ‏}‏ أو من قوله‏:‏ ‏{‏أَتُحَاجُّونّى‏}‏ إليه‏.‏ ‏{‏حُجَّتُنَا ءاتيناها إبراهيم‏}‏ أرشدناه إليها أو علمناه إياها‏.‏ ‏{‏على قَوْمِهِ‏}‏ متعلق ب ‏{‏حُجَّتُنَا‏}‏ إن جعل خبر تلك وبمحذوف إن جعل بدله أي‏:‏ آتيناها إبراهيم حجة على قومه‏.‏ ‏{‏نَرْفَعُ درجات مَّن نَّشَاء‏}‏ في العلم والحكمة‏.‏ وقرأ الكوفيون ويعقوب بالتنوين‏.‏ ‏{‏إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ‏}‏ في رفعه وخفضه‏.‏ ‏{‏عَلِيمٌ‏}‏ بحال من يرفعه واستعداده له‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏84‏]‏

‏{‏وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ‏(‏84‏)‏‏}‏

‏{‏وَوَهَبْنَا لَهُ إسحاق وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنَا‏}‏ أي كلا منهما‏.‏ ‏{‏وَنُوحاً هَدَيْنَا مِن قَبْلُ‏}‏ من قبل إبراهيم، عد هداه نعمة على إبراهيم من حيث إنه أبوه وشرف الوالد يتعدى إلى الولد‏.‏ ‏{‏وَمِن ذُرّيَّتِهِ‏}‏ الضمير لإبراهيم عليه الصلاة والسلام إذ الكلام فيه‏.‏ وقيل لنوح عليه السلام لأنه أقرب ولأن يونس ولوطاً ليسا من ذرية إبراهيم، فلو كان لإبراهيم اختص البيان بالمعدودين في تلك الآية والتي بعدها والمذكورون في الآية الثالثة عطف على نوحاً‏.‏ ‏{‏دَاوُودُ وسليمان وَأَيُّوبَ‏}‏ أيوب بن أموص من أسباط عيص بن إسحاق‏.‏ ‏{‏وَيُوسُفَ وموسى وهارون وَكَذَلِكَ نَجْزِى المحسنين‏}‏ أي ونجزي المسحنين جزاء مثل ما جزينا إبراهيم برفع درجاته وكثر أولاده والنبوة فيهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏85‏]‏

‏{‏وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ ‏(‏85‏)‏‏}‏

‏{‏وَزَكَرِيَّا ويحيى وعيسى‏}‏ هو ابن مريم وفي ذكره دليل على أن الذرية تتناول أولاد البنت‏.‏ ‏{‏وَإِلْيَاسَ‏}‏ قيل هو إدريس جد نوح فيكون البيان مخصوصاً بمن في الآية الأولى‏.‏ وقيل هو من أسباط هارون أخي موسى‏.‏ ‏{‏كُلٌّ مّنَ الصالحين‏}‏ الكاملين في الصلاح وهو الإِتيان بما ينبغي والتحرز عما لا ينبغي‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏86‏]‏

‏{‏وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ ‏(‏86‏)‏‏}‏

‏{‏وإسماعيل واليسع‏}‏ هو الليسع بن أخطوب‏.‏ وقرأ حمزة والكسائي «والليسع» وعلى القراءتين هو علم أعجمي أدخل عليه اللام كما أدخل على اليزيد في قوله‏:‏

رَأَيْتُ الوَلِيْدَ بن اليزيد مُبَارَكا *** شَدِيداً بِأَعْبَاءِ الخِلاَفَةِ كَاهِلُهُ

‏{‏وَيُونُسَ‏}‏ هو يونس بن متى‏.‏ ‏{‏وَلُوطاً‏}‏ هو ابن هاران أخي إبراهيم‏.‏ ‏{‏وَكُلاًّ فَضَّلْنَا عَلَى العالمين‏}‏ بالنبوة، وفيه دليل على فضلهم على من عداهم من الخلق‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏87- 92‏]‏

‏{‏وَمِنْ آَبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ‏(‏87‏)‏ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏88‏)‏ أُولَئِكَ الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ ‏(‏89‏)‏ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ ‏(‏90‏)‏ وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلَا آَبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ ‏(‏91‏)‏ وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ ‏(‏92‏)‏‏}‏

‏{‏وَمِنْ ءابَائِهِمْ وذرياتهم وإخوانهم‏}‏ عطف على ‏{‏كَلاَّ‏}‏ أو ‏{‏نُوحاً‏}‏ أي فضلنا كلاً منهم، أو هدينا هؤلاء وبعض آبائهم وذرياتهم وإخوانهم فإن منهم من لم يكن نبياً ولا مهدياً‏.‏ ‏{‏واجتبيناهم‏}‏ عطف على ‏{‏فَضَّلْنَا‏}‏ أو ‏{‏هَدَيْنَا‏}‏‏.‏ ‏{‏وهديناهم إلى صراط مُّسْتَقِيمٍ‏}‏ تكرير لبيان ما هدوا إليه‏.‏

‏{‏ذلك هُدَى الله‏}‏ إشارة إلى ما دانوا به‏.‏ ‏{‏يَهْدِى بِهِ مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ‏}‏ دليل على أنه متفضل عليهم بالهداية‏.‏ ‏{‏وَلَوْ أَشْرَكُواْ‏}‏ أي ولو أشرك هؤلاء الأنبياء عليهم الصلاة والسلام مع فضلهم وعلو شأنهم‏.‏ ‏{‏لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ‏}‏ لكانوا كغيرهم في حبوط أعمالهم بسقوط ثوابها‏.‏

‏{‏أولئك الذين ءاتيناهم الكتاب‏}‏ يريد به الجنس‏.‏ ‏{‏والحكم‏}‏ الحكمة أو فصل الأمر على ما يقتضيه الحق‏.‏ ‏{‏والنبوة‏}‏ والرسالة‏.‏ ‏{‏فَإِن يَكْفُرْ بِهَا‏}‏ أي بهذه الثلاثة‏.‏ ‏{‏هَؤُلاء‏}‏ يعني قريشاً‏.‏ ‏{‏فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا‏}‏ أي بمراعاتها‏.‏ ‏{‏قَوْماً لَّيْسُواْ بِهَا بكافرين‏}‏ وهم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام المذكورون ومتابعوهم‏.‏ وقيل هم الأنصار أو أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، أو كل من آمن به أو الفرس‏.‏ وقيل الملائكة‏.‏

‏{‏أُوْلَئِكَ الذين هَدَى الله‏}‏ يريد الأنبياء عليهم الصلاة والسلام المتقدم ذكرهم‏.‏ ‏{‏فَبِهُدَاهُمُ اقتده‏}‏ فاختص طريقهم بالاقتداء والمراد بهداهم ما توافقوا عليه من التوحيد وأصول الدين دون الفروع المختلف فيها، فإنها ليست هدى مضافاً إلى الكل ولا يمكن التأسي بهم جميعاً‏.‏ فليس فيه دليل على أنه عليه الصلاة والسلام متعبد بشرع من قبله، والهاء في ‏{‏اقتده‏}‏ للوقف ومن أثبتها في الدرج ساكنة كابن كثير ونافع وأبي عمرو وعاصم أجرى الوصل مجرى الوقف، ويحذف الهاء في الوصل خاصة حمزة والكسائي وأشبعها بالكسر ابن عامر برواية ابن ذكوان على أنها كناية المصدر وكسرها بغير إشباع برواية هشام‏.‏ ‏{‏قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ‏}‏ أي على التبليغ أو القرآن‏.‏ ‏{‏أَجْراً‏}‏ جعلاً من جهتكم كما لم يسأل من قبلي من النبيين، وهذا من جملة ما أمر بالاقتداء بهم فيه‏.‏ ‏{‏إِنْ هُوَ‏}‏ أي التبليغ أو القرآن أو الغرض‏.‏ ‏{‏إِلاَّ ذكرى للعالمين‏}‏ إلا تذكيراً وموعظة لهم‏.‏

‏{‏وَمَا قَدَرُواْ الله حَقَّ قَدْرِهِ‏}‏ وما عرفوه حق معرفته في الرحمة والإِنعام على العباد‏.‏ ‏{‏إِذْ قَالُواْ مَا أَنزَلَ الله على بَشَرٍ مّن شَئ‏}‏ حين أنكروا الوحي وبعثة الرسل عليهم الصلاة والسلام، وذلك من عظائم رحمته وجلائل نعمته أو في السخط على الكفار وشدة البطش بهم حين جسروا على هذه المقالة، والقائلون هم اليهود قالوا ذلك مبالغة في إنكار إنزال القرآن بدليل نقض كلامهم، وإلزامهم بقوله‏:‏ ‏{‏قُلْ مَنْ أَنزَلَ الكتاب الذى جَاء بِهِ موسى نُوراً وَهُدًى لّلنَّاسِ‏}‏ وقراءة الجمهور ‏{‏تَجْعَلُونَهُ قراطيس تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيراً‏}‏ بالتاء وإنما قرأ بالياء ابن كثير وأبو عمرو حملاً على قالوا وما قدروا، وتضمن ذلك توبيخهم على سوء جهلهم بالتوراة وذمهم على تجزئتها بإبداء بعض انتخبوه وكتبوه في ورقات متفرقة وإخفاء بعض لا يشتهونه‏.‏

وروي ‏"‏ أن مالك بن الصيف قاله لما أغضبه الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله‏:‏ أنشدك الله الذي أنزل التوراة على موسى هل تجد فيها أن الله يبغض الحبر السمين قال‏:‏ نعم إن الله يبغض الحبر السمين، قال عليه الصلاة والسلام‏:‏ فأنت الحبر السمين ‏"‏ وقيل هم المشركون وإلزامهم بإنزال التوراة لأنه كان من المشهورات الذائعة عندهم ولذلك كانوا يقولون ‏{‏لَوْ أَنَّا أُنزِلَ عَلَيْنَا الكتاب لَكُنَّا أهدى مِنْهُمْ‏}‏ ‏{‏وَعُلّمْتُمْ‏}‏ على لسان محمد صلى الله عليه وسلم‏.‏ ‏{‏مَا لَمْ تَعْلَمُواْ أَنتُمْ وَلاَ ءابَاؤُكُمْ‏}‏ زيادة على ما في التوراة وبياناً لما التبس عليكم وعلى آبائكم الذين كانوا أعلم منكم ونظيره ‏{‏إِنَّ هذا القرءان يَقُصُّ على بَنِى إسراءيل أَكْثَرَ الذى هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ‏}‏ وقيل الخطاب لمن آمن من قريش ‏{‏قُلِ الله‏}‏ أي أنزله الله، أو الله أنزله‏.‏ أمره بأن يجيب عنهم إشعاراً بأن الجواب متعين لا يمكن غيره، وتنبيهاً على أنهم بهتوا بحيث إنهم لا يقدرون على الجواب‏.‏ ‏{‏ثُمَّ ذَرْهُمْ فِى خَوْضِهِمْ‏}‏ في أباطيلهم فلا عليك بعد التبليغ وإلزام الحجة‏.‏ ‏{‏يَلْعَبُونَ‏}‏ حال من هم الأول، والظرف صلة ذرهم أو يلعبون أو حال منهم الأول، والظرف صلة ذرهم أو يلعبون أو حال من مفعوله، أو فاعل يلعبون أو من هم الثاني والظرف متصل بالأول‏.‏

‏{‏وهذا كتاب أنزلناه مُبَارَكٌ‏}‏ كثير الفائدة والنفع‏.‏ ‏{‏مُّصَدّقُ الذى بَيْنَ يَدَيْهِ‏}‏ يعني التوراة أو الكتب التي قبله‏.‏ ‏{‏وَلِتُنذِرَ أُمَّ القرى‏}‏ عطف على ما دل عليه مبارك أي للبركات ولتنذر أو علة لمحذوف أي ولتنذر أهل أم القرى أنزلناه، وإنما سميت مكة بذلك لأنها قبلة أهل القرى ومحجهم ومجتمعهم وأعظم القرى شأناً‏.‏ وقيل لأن الأرض دحيت من تحتها، أو لأنها مكان أول بيت وضع للناس‏.‏ وقرأ أبو بكر عن عاصم بالياء «وليندز» الكتاب‏.‏ ‏{‏وَمَنْ حَوْلَهَا‏}‏ أهل الشرق والغرب‏.‏ ‏{‏والذين يُؤْمِنُونَ بالأخرة يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ على صَلاَتِهِمْ يُحَافِظُونَ‏}‏ فإن من صدق بالآخرة خاف العاقبة ولا يزال الخوف يحمله على النظر والتدبر حتى يؤمن بالنبي والكتاب، والضمير يحتملهما ويحافظ على الطاعة وتخصيص الصلاة لأنها عماد الدين وعلم الإِيمان‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏93‏]‏

‏{‏وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آَيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ ‏(‏93‏)‏‏}‏

‏{‏وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى عَلَى الله كَذِباً‏}‏ فزعم أنه بعثه نبياً كمسيلمة والأسود العنسي، أو اختلق عليه أحكاماً كعمرو بن لحي ومتابعيه‏.‏ ‏{‏أَوْ قَالَ أُوْحِى إِلَىَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَئ‏}‏ كعبد الله بن سعد بن أبي سرح ‏(‏كان يكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم فلما نزلت ‏{‏وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان مِن سلالة مّن طِينٍ‏}‏ فلما بلغ قوله‏:‏ ‏{‏ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقاً آخر‏}‏ قال عبد الله ‏(‏فتبارك الله أحسن الخالقين‏)‏ تعجباً من تفصيل خلق الإِنسان فقال عليه الصلاة والسلام‏:‏ اكتبها فكذلك نزلت، فشك عبد الله وقال لئن كان محمد صادقاً لقد أوحي إليّ كما أوحي ولئن كان كاذباً لقد قلت كما قال‏)‏‏.‏ ‏{‏وَمَن قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَا أَنَزلَ الله‏}‏ كالذين قالوا لو نشاء لقلنا مثل هذا‏.‏ ‏{‏وَلَوْ تَرَى إِذِ الظالمون‏}‏ حذف مفعوله لدلالة الظرف عليه أي ولو ترى الظالمين‏.‏ ‏{‏فِى غَمَرَاتِ الموت‏}‏ شَدَائده من غمره الماء إذا غشيه‏.‏ ‏{‏والملئكة بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ‏}‏ بقبض أرواحهم كالمتقاضي الملظ أو بالعذاب‏.‏ ‏{‏أَخْرِجُواْ أَنفُسَكُمُ‏}‏ أي يقولون لهم أخرجوها إلينا من أجسادكم تغليظاً وتعنيفاً عليهم، أو أخرجوها من العذاب وخلصوها من أيدينا‏.‏ ‏{‏اليوم‏}‏ يريدون وقت الإِماتة، أو الوقت الممتد من الإِماتة إلى ما لا نهاية له‏.‏ ‏{‏تُجْزَوْنَ عَذَابَ الهون‏}‏ أي الهوان يريدون العذاب المتضمن لشدة وإهانة، فإضافته إلى الهون لعراقته وتمكنه فيه‏.‏ ‏{‏بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى الله غَيْرَ الحق‏}‏ كادعاء الولد والشريك له ودعوى النبوة والوحي كاذباً‏.‏ ‏{‏وَكُنتُمْ عَنْ ءاياته تَسْتَكْبِرُونَ‏}‏ فلا تتأملون فيها ولا تؤمنون‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏94‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ ‏(‏94‏)‏‏}‏

‏{‏وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا‏}‏ للحساب والجزاء‏.‏ ‏{‏فرادى‏}‏ منفردين عن الأموال والأولاد وسائر ما آثرتموه من الدنيا، أو عن الأعوان والأوثان التي زعمتم أنها شفعاؤكم، وهو جمع فرد والألف للتأنيث ككسالى‏.‏ وقرئ «فراد» كرخال وفراد كثلاث وفردى كسكرى‏.‏ ‏{‏كَمَا خلقناكم أَوَّلَ مَرَّةٍ‏}‏ بدل منه أي على الهيئة التي ولدتم عليها في الانفراد، أو حال ثانية إن جوز التعدد فيها، أو حال من الضمير في ‏{‏فرادى‏}‏ أي مشبهين ابتداء خلقكم عراة حفاة غرلاً بهما، أو صفة مصدر ‏{‏جِئْتُمُونَا‏}‏ أي مجيئنا كما خلقناكم‏.‏ ‏{‏وَتَرَكْتُمْ مَّا خولناكم‏}‏ ما تفضلنا به عليكم في الدنيا فشغلتم به عن الآخرة‏.‏ ‏{‏وَرَاء ظُهُورِكُمْ‏}‏ ما قدمتم منه شيئاً ولم تحتملوا نقيراً‏.‏ ‏{‏وَمَا نرى مَعَكُمْ شُفَعَاءكُمُ الذين زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاء‏}‏ أي شركاء لله في ربوبيتكم واستحقاق عبادتكم‏.‏ ‏{‏لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ‏}‏ أي تقطع وصلكم وتشتت جمعكم، والبين من الأضداد يستعمل للوصل والفصل‏.‏ وقيل هو ظرف أسند إليه الفعل اتساعاً والمعنى‏:‏ وقع التقطع بينكم، ويشهد له قراءة نافع والكسائي وحفص عن عاصم بالنصب على إضمار الفاعل لدلالة ما قبله عليه، أو أقيم مقام موصوفة وأصله لقد تقطع ما بينكم وقد قرئ به‏.‏ ‏{‏وَضَلَّ عَنكُم‏}‏ ضاع وبطل‏.‏ ‏{‏مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ‏}‏ أنها شفعاؤكم أو أن لا بعث ولا جزاء‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏95‏]‏

‏{‏إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ ‏(‏95‏)‏‏}‏

‏{‏إِنَّ الله فَالِقُ الحب والنوى‏}‏ بالنبات والشجر‏.‏ وقيل المراد به الشقاق الذي في الحنطة والنواة‏.‏ ‏{‏يُخْرِجُ الحي‏}‏ يريد به ما ينمو من الحيوان والنبات ليطابق ما قبله‏.‏ ‏{‏مِنَ الميت‏}‏ مما لا ينمو كالنطف والحب‏.‏ ‏{‏وَمُخْرِجُ الميت مِنَ الحي‏}‏ ومخرج ذلك من الحيوان والنبات، ذكره بلفظ يالاسم حملاً على فالق الحب فإن قوله‏:‏ يخرج الحي واقع موقع البيان له‏.‏ ‏{‏ذَلِكُمُ الله‏}‏ أي ذلكم المحيي المميت هو الذي يحق له العبادة‏.‏ ‏{‏فأنى تُؤْفَكُونَ‏}‏ تصرفون عنه إلى غيره‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏96‏]‏

‏{‏فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ ‏(‏96‏)‏‏}‏

‏{‏فَالِقُ الإصباح‏}‏ شاق عمود الصبح عن ظلمة الليل أو عن بياض النهار، أو شاق ظلمة الإِصباح وهو الغبش الذي يليه والإِصباح في الأصل مصدر أصبح إذا دخل في الصباح سمي به الصبح‏.‏ وقرئ بفتح الهمزة على الجمع وقرئ ‏{‏فَالِقُ الإصباح‏}‏ بالنصب على المدح‏.‏ ‏{‏وَجَاعِلُ اللَّيْل سَكَناً‏}‏ يسكن إليه التعب بالنهار لاستراحته فيه من سكن إليه إذا اطمأن إليه استئناساً به، أو يسكن فيه الخلق من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لِتَسْكُنُواْ فِيهِ‏}‏ ونصبه بفعل دل عليه جاعل لا به، فإن في معنى الماضي‏.‏ ويدل عليه قراءة الكوفيين ‏{‏وَجَعَلَ اليل‏}‏ حملاً على معنى المعطوف عليه، فإن فالق بمعنى فلق ولذلك قرئ به، أو به على أن المراد منه جعل مستمر في الأزمنة المختلفة وعلى هذا يجوز أن يكون ‏{‏والشمس والقمر‏}‏ عطفاً على محل الليل ويشهد له قراءتهما بالجر والأحسن نصبهما بجعل مقدراً‏.‏ وقرئ بالرفع على الابتداء والخبر محذوف أي مجعولان‏.‏ ‏{‏حُسْبَاناً‏}‏ أي على أدوار مختلفة يحسب بهما الأوقات ويكونان علمي الحسبان، وهو مصدر حسب بالفتح كما أن الحسبان بالكسر مصدر حسب‏.‏ وقيل جمع حساب كشهاب وشهبان‏.‏ ‏{‏ذلك‏}‏ إشارة إلى جعلهما حسباناً أي ذلك التسيير بالحساب المعلوم‏.‏ ‏{‏تَقْدِيرُ العزيز‏}‏ الذي قهرهما وسيرهما على الوجه المخصوص‏.‏ ‏{‏العليم‏}‏ بتدبيرهما والأنفع من التداوير الممكنة لهما‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏97‏]‏

‏{‏وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ‏(‏97‏)‏‏}‏

‏{‏وَهُوَ الذى جَعَلَ لَكُمُ النجوم‏}‏ خلقها لكم‏.‏ ‏{‏لِتَهْتَدُواْ بِهَا فِى ظلمات البر والبحر‏}‏ في ظلمات الليل في البر والبحر، وإضافتها إليهما للملابسة أو في مشتبهات الطرق وسماها ظلمات على الاستعارة، وهو إفراد لبعض منافعها بالذكر بعد ما أجملها بقوله لكم‏.‏ ‏{‏قَدْ فَصَّلْنَا الآيات‏}‏ بيناها فصلاً فصلاً‏.‏ ‏{‏لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ‏}‏ فإنهم المنتفعون به‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏98‏]‏

‏{‏وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ ‏(‏98‏)‏‏}‏

‏{‏وَهُوَ الذى أَنشَأَكُم مّن نَّفْسٍ واحدة‏}‏ هو آدم عليه الصلاة والسلام‏.‏ ‏{‏فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ‏}‏ أي فلكم استقرار في الأصلاب، أو فوق الأرض واستيداع في الأرحام، أو تحت الأرض أو موضع استقرار واستيداع، وقرأ ابن كثير والبصريان بكسر القاف على أنه اسم فاعل، والمستودع اسم مفعول أي فمنكم قار ومنكم مستودع، لأن الاستقرار منا دون الاستيداع‏.‏ ‏{‏قَدْ فَصَّلْنَا الآيات لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ‏}‏ ذكر مع ذكر النجوم يعلمون لأن أمرها ظاهر، ومع ذكر تخليق بني آدم يفقهون لأن إنشاءهم من نفس واحدة وتصريفهم بين أحوال مختلفة دقيق غامض يحتاج إلى استعمال فطنة وتدقيق نظر‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏99- 105‏]‏

‏{‏وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ‏(‏99‏)‏ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ ‏(‏100‏)‏ بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ‏(‏101‏)‏ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ ‏(‏102‏)‏ لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ‏(‏103‏)‏ قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ ‏(‏104‏)‏ وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآَيَاتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ‏(‏105‏)‏‏}‏

‏{‏وَهُوَ الذى أَنزَلَ مِنَ السماء مَاء‏}‏ من السحاب أو من جانب السماء‏.‏ ‏{‏فَأَخْرَجْنَا‏}‏ على تلوين الخطاب‏.‏ ‏{‏بِهِ‏}‏ بالماء‏.‏ ‏{‏نَبَاتَ كُلّ شَيْء‏}‏ نبت كل صنف من النبات والمعنى‏:‏ إظهار القدرة في إنبات الأنواع المختلفة المفننة المسقية بماء واحد كما في قوله سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏يسقى بِمَاء واحد‏}‏ ونفضل بعضها على بعض في الأكل‏.‏ ‏{‏فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ‏}‏ من النبات أو الماء‏.‏ ‏{‏خُضْرًا‏}‏ شيئاً أخضر يقال أخضر وخضر كأعور وعور، وهو الخارج من الحبة المتشعب‏.‏ ‏{‏نُّخْرِجُ مِنْهُ‏}‏ من الخضر‏.‏ ‏{‏حَبّاً مُّتَرَاكِباً‏}‏ وهو السنبل‏.‏ ‏{‏وَمِنَ النخل مِن طَلْعِهَا قنوان‏}‏ أي وأخرجنا من النخل نخلاً من طلعها قنوان، أو من النخل شيء من طلعها قنوان، ويجوز أن يكون من النخل خبر قنوان ومن طلعها بدل منه والمعنى‏:‏ وحاصلة من طلع النخل قنوان وهو الأعذاق جمع قنو كصنوان جمع صنو‏.‏ وقرئ بضم القاف كذئب وذؤبان وبفتحها على أنه اسم جمع إذ ليس فعلان من أبنية الجمع‏.‏ ‏{‏دَانِيَةٌ‏}‏ قريبة من المتناول، أو ملتفة قريب بعضها من بعض، وإنما اقتصر على ذكرها عن مقابلها لدلالتها عليه وزيادة النعمة فيها‏.‏ ‏{‏وجنات مّنْ أعناب‏}‏ عطف على نبات كل شيء‏.‏ وقرأ نافع بالرفع على الابتداء أي ولكم أو ثم جنات أو من الكرم جنات، ولا يجوز عطفه على ‏{‏قنوان‏}‏ إذ العنب لا يخرج من النخل‏.‏ ‏{‏والزيتون والرمان‏}‏ أيضاً عطف على نبات أو نصب على الاختصاص لعزة هذين الصنفين عندهم‏.‏ ‏{‏مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ متشابه‏}‏ حال من الرمان، أو من الجميع أي بعض ذلك متشابه وبعضه غير متشابه في الهيئة والقدر واللون والطعم‏.‏ ‏{‏انظروا إلى ثَمَرِهِ‏}‏ أي ثمر كل واحد من ذلك‏.‏ وقرأ حمزة والكسائي بضم التاء والميم، وهو جمع ثمرة كخشبة وخشب، أو ثمار ككتاب وكتب‏.‏ ‏{‏إِذَا أَثْمَرَ‏}‏ إذا أخرج ثمره كيف يثمر ضئيلاً لا يكاد ينتفع به‏.‏ ‏{‏وَيَنْعِهِ‏}‏ وإلى حال نضجه أو إلى نضيجة كيف يعود ضخماً ذا نفع ولذة، وهو في الأصل مصدر ينعت الثمر إذا أدركت‏.‏ وقيل جمع يانع كتاجر وتجر‏.‏ وقرئ بالضم وهو لغة فيه ويانعه‏.‏ ‏{‏إِنَّ فِى ذلكم لآيات لّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ‏}‏ أي لآيات دالة على وجود القادر الحكيم وتوحيده، فإن حدوث الأجناس المختلفة والأنواع المتفننة من أصل واحد ونقلها من حال إلى حال لا يكون إلا بإحداث قادر يعلم تفاصيلها، ويرجح ما تقتضيه حكمته مما يمكن من أحوالها ولا يعوقه عن فعله ند يعارضه أو ضد يعانده، ولذلك عقبه بتوبيخ من أشرك به والرد عليه فقال‏.‏

‏{‏وَجَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَاء الجن‏}‏ أي الملائكة بأن عبدوهم وقالوا‏:‏ الملائكة بنات الله‏.‏ وسماهم جناً لاجتنانهم تحقيراً لشأنهم، أو الشياطين لأنهم أطاعوهم كما يطاع الله تعالى، أو عبدوا الأوثان بتسويلهم وتحريضهم، أو قالوا الله خالق الخير وكل نافع، والشيطان خالق الشر وكل ضار كما هو رأي الثنوية‏.‏

ومفعولا ‏{‏جَعَلُواْ‏}‏ ‏{‏للَّهِ شُرَكَاء‏}‏ والجن بدل من ‏{‏شُرَكَاء‏}‏ أو ‏{‏شُرَكَاء‏}‏ الجن و‏{‏لِلَّهِ‏}‏ متعلق ب ‏{‏شُرَكَاء‏}‏، أو حال منه وقرئ ‏{‏الجن‏}‏ بالرفع كأنه قيل‏:‏ من هم فقيل الجن، و‏{‏الجن‏}‏ بالجر على الإِضافة للتبيين‏.‏ ‏{‏وَخَلَقَهُمْ‏}‏ حال بتقدير قد، والمعنى وقد علموا أن الله خالقهم دون الجن وليس من يخلق كمن لا يخلق‏.‏ وقرئ ‏{‏وَخَلَقَهُمْ‏}‏ عطفاً على ‏{‏الجن‏}‏ أي وما يخلقونه من الأصنام، أو على شركاء أي وجعلوا له اختلافهم للإِفك حيث نسبوه إليه‏.‏ ‏{‏وَخَرَقُواْ لَهُ‏}‏ افتعلوا وافتروا له‏.‏ وقرأ نافع بتشديد الراء للتكثير‏.‏ وقرئ «وحرفوا» أي وزوروا‏.‏ ‏{‏بَنِينَ وَبَنَاتٍ‏}‏ فقالت اليهود عزير ابن الله، وقالت النصارى المسيح ابن الله، وقالت العرب الملائكة بنات الله‏.‏ ‏{‏بِغَيْرِ عِلْمٍ‏}‏ من غير أن يعلموا حقيقة ما قالوه ويروا عليه دليلاً، وهو في موضع الحال من الواو، أو المصدر أي خرقاً بغير علم‏.‏ ‏{‏سبحانه وتعالى عَمَّا يَصِفُونَ‏}‏ وهو أن له شريكاً أو ولداً‏.‏

‏{‏بَدِيعُ السموات والأرض‏}‏ من إضافة الصفة المشبهة إلى فاعلها، أو إلى الظرف كقولهم‏:‏ ثبت الغدر بمعنى أنه عديم النظير فيهما، وقيل معناه المبدع وقد سبق الكلام فيه، ورفعه على الخبر والمبتدأ محذوف أو على الابتداء وخبره‏.‏ ‏{‏أنى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ‏}‏ أي من أين أو كيف يكون له ولد‏.‏ ‏{‏وَلَمْ تَكُنْ لَّهُ صاحبة‏}‏ يكون منها الولد‏.‏ وقرئ بالياء للفصل أو لأن الاسم ضمير الله أو ضمير الشأن‏.‏ ‏{‏وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وهُوَ بِكُلّ شَيْء عَلِيمٌ‏}‏ لا تخفى عليه خافية، وإنما لم يقل به لتطرق التخصيص إلى الأول، وفي الآية استدلال على نفي الولد من وجوه‏:‏ ‏(‏الأول‏)‏ أنه من مبدعاته السموات والأرضون، وهي مع أنها من جنس ما يوصف بالولادة مبرأة عنها لاستمرارها وطول مدتها فهو أولى بأن يتعالى عنها، أو أن ولد الشيء نظيره ولا نظير له فلا ولد‏.‏ ‏(‏والثاني‏)‏ أن المعقول من الولد ما يتولد من ذكر وأنثى متجانسين والله سبحانه وتعالى منزه عن المجانسة‏.‏ ‏(‏والثالث‏)‏ أن الولد كفؤ الوالد ولا كفؤ له لوجهين‏:‏ الأول أن كل ما عداه مخلوقه فلا يكافئه‏.‏ والثاني أنه سبحانه وتعالى لذاته عالم بكل المعلومات ولا كذلك غيره بالإِجماع‏.‏

‏{‏ذلكم‏}‏ إشارة إلى الموصوف بما سبق من الصفات وهو مبتدأ‏.‏ ‏{‏الله رَبُّكُمْ لا إله إِلاَّ هُوَ خالق كُلّ شَيْء‏}‏ أخبار مترادفة ويجوز أن يكون البعض بدلاً أو صفة والبعض خبراً‏.‏ ‏{‏فاعبدوه‏}‏ حكم مسبب عن مضمونها فإن من استجمع هذه الصفات استحق العبادة‏.‏ ‏{‏وَهُوَ على كُلّ شَيْء وَكِيلٌ‏}‏ أي وهو مع تلك الصفات متولي أموركم فكلوها إليه وتوسلوا بعبادته إلى إنجاح مآربكم ورقيب على أعمالكم فيجازيكم عليها‏.‏

‏{‏لاَّ تُدْرِكُهُ‏}‏ أي لا تحيط به‏.‏ ‏{‏الأبصار‏}‏ جمع بصر وهي حاسة النظر وقد يقال للعين من حيث إنها محلها واستدل به المعتزلة على امتناع الرؤية وهو ضعيف، إذ ليس الإِدراك مطلق الرؤية ولا النفي في الآية عاماً في الأوقات فلعله مخصوص ببعض الحالات ولا في الأشخاص، فإنه في قوة قولنا لا كل بصر يدركه مع أن النفي لا يوجب الامتناع‏.‏ ‏{‏وَهُوَ يُدْرِكُ الأبصار‏}‏ يحيط علمه بها‏.‏ ‏{‏وَهُوَ اللطيف الخبير‏}‏ فيدرك ما لا تدركه الأبصار كالأبصار، ويجوز أن يكون من باب اللف أي لا تدركه الأبصار لأنه اللطيف وهو يدرك الأبصار لأنه الخبير، فيكون اللطيف مستعاراً من مقابل الكثيف لما لا يدرك بالحاسة ولا ينطبع فيها‏.‏

‏{‏قَدْ جَاءكُمْ بَصَائِرُ مِن رَّبّكُمْ‏}‏ البصائر جمع بصيرة وهي للنفس كالبصر للبدن، سميت بها لدلالة لأنها تجلي لها الحق وتبصرها به‏.‏ ‏{‏فَمَنْ أَبْصَرَ‏}‏ أي أبصر الحق وآمن به‏.‏ ‏{‏فَلِنَفْسِهِ‏}‏ أبصر لأن نفعه لها‏.‏ ‏{‏وَمَنْ عَمِيَ‏}‏ عن الحق وضل‏.‏ ‏{‏فَعَلَيْهَا‏}‏ وباله‏.‏ ‏{‏وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ‏}‏ وإنما أنا منذر والله سبحانه وتعالى هو الحفيظ عليكم يحفظ أعمالكم ويجازيكم عليها، وهذا كلام ورد على لسان الرسول عليه الصلاة والسلام‏.‏

‏{‏وكذلك نُصَرّفُ الآيات‏}‏ ومثل ذلك التصريف نصرف، وهو إجراء المعنى الدائر في المعاني المتعاقبة من الصرف، وهو نقل الشيء من حال إلى حال‏.‏ ‏{‏وَلِيَقُولُواْ دَرَسْتَ‏}‏ أي وليقولوا درست صرفنا واللام لام العاقبة، والدرس القراءة والتعليم‏.‏ وقرأ ابن كثير وأبو عمرو دارست أي دارست أهل الكتاب وذاكرتهم، وابن عامر ويعقوب درست من الدروس أي قدمت هذه الآيات وعفت كقولهم أساطير الأولين‏.‏ وقرئ ‏{‏دَرُسْتَ‏}‏ بضم الراء مبالغة في درست ودرست على البناء للمفعول بمعنى قرئت، أو عفيت ودارست بمعنى درست أو دارست اليهود محمداً صلى الله عليه وسلم، وجاز إضمارهم بلا ذكر لشهرتهم بالدراسة، ودرسن أي عنون ودرس أي درس محمد صلى الله عليه وسلم ودارسات أي قديمات أو ذوات درس كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فِى عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ‏}‏‏.‏ ‏{‏وَلِنُبَيّنَهُ‏}‏ اللام على أصله لأن التبيين مقصود التصريف والضمير للآيات باعتبار المعنى، أو للقرآن وإن لم يذكر لكونه معلوماً أو للمصدر‏.‏ ‏{‏لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ‏}‏ فإنهم المنتفعون به‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏106‏]‏

‏{‏اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ ‏(‏106‏)‏‏}‏

‏{‏اتبع مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِن رَّبّكَ‏}‏ بالتدين به‏.‏ ‏{‏لاَ إله إِلاَّ هُوَ‏}‏ اعتراض أكد به إيجاب الاتباع، أو حال مؤكدة من ربك بمعنى منفرداً في الألوهية‏.‏ ‏{‏وَأَعْرِضْ عَنِ المشركين‏}‏ ولا تحتفل بأقوالهم ولا تلتفت إلى آرائهم، ومن جعله منسوخاً بآية السيف حمل الإِعراض على ما يعم الكف عنهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏107‏]‏

‏{‏وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ ‏(‏107‏)‏‏}‏

‏{‏وَلَوْ شَاء الله‏}‏ توحيدهم وعدم إشراكهم‏.‏ ‏{‏مَا أَشْرَكُواْ‏}‏ وهو دليل على أنه سبحانه وتعالى لا يريد إيمان الكافرين وأن مراده واجب الوقوع‏.‏ ‏{‏وَمَا جعلناك عَلَيْهِمْ حَفِيظاً‏}‏ رقيباً‏.‏ ‏{‏وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ‏}‏ تقوم بأمورهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏108‏]‏

‏{‏وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏108‏)‏‏}‏

‏{‏وَلاَ تَسُبُّواْ الذين يَدْعُونَ مِن دُونِ الله‏}‏ أي ولا تذكروا آلهتهم التي يعبدونها بما فيها من القبائح‏.‏ ‏{‏فَيَسُبُّواْ الله عَدْواً‏}‏ تجاوزاً عن الحق إلى الباطل‏.‏ ‏{‏بِغَيْرِ عِلْمٍ‏}‏ على جهالة بالله سبحانه وتعالى وبما يجب أن يذكر به‏.‏ وقرأ يعقوب ‏{‏عَدُوّا‏}‏ يقال عدا فلان عدواًّ وعدواً وعداءَ وعدواناً‏.‏ روي‏:‏ أنه عليه الصلاة والسلام كان يطعن في آلهتهم فقالوا لتنتهين عن سب آلهتنا أو لنهجون إلهك، فنزلت‏.‏ وقيل كان المسلمون يسبونها فنهوا لئلا يكون سبهم سبباً لسب الله سبحانه وتعالى، وفيه دليل على أن الطاعة إذا أدت إلى معصية راجحة وجب تركها فإن ما يؤدي إلى الشر شر‏.‏ ‏{‏كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ‏}‏ من الخير والشر بإحداث ما يمكنهم منه ويحملهم عليه توفيقاً وتخذيلاً، ويجوز تخصيص العمل بالشر وكل أمة بالكفرة لأن الكلام فيهم، والمشبه به تزيين سب الله لهم‏.‏ ‏{‏ثُمَّ إلى رَبّهِمْ مَّرْجِعُهُمْ فَيُنَبّئُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ‏}‏ بالمحاسبة والمجازاة عليه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏109‏]‏

‏{‏وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آَيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الْآَيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ ‏(‏109‏)‏‏}‏

‏{‏وَأَقْسَمُواْ بالله جَهْدَ أيمانهم‏}‏ مصدر في موقع الحال، والداعي لهم إلى هذا القسم والتأكيد فيه التحكم على الرسول صلى الله عليه وسلم في طلب الآيات واستحقارما رأوا منها‏.‏ ‏{‏لَئِن جَاءتْهُمْ ءايَةٌ‏}‏ من مقترحاتهم‏.‏ ‏{‏لَّيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الآيات عِندَ الله‏}‏ هو قادر عليها يظهر منها ما يشاء وليس شيء منها بقدرتي وإرادتي‏.‏ ‏{‏وَمَا يُشْعِرُكُمْ‏}‏ وما يدريكم استفهام إنكار‏.‏ ‏{‏أَنَّهَا‏}‏ أي أن الآية المقترحة‏.‏ ‏{‏إِذَا جَاءتْ لاَ يُؤْمِنُونَ‏}‏ أي لا تدرون أنهم لا يؤمنون، أنكر السبب مبالغة في نفي المسبب، وفيه تنبيه على أنه سبحانه وتعالى إنما لم ينزلها لعلمه بأنها إذا جاءت لا يؤمنون بها، وقيل لا مزيدة وقيل أن بمعنى لعل إذ قرئ لعلها قرأ ابن كثير وأبو عمرو وأبو بكر عن عاصم ويعقوب إنها بالكسر كأنه قال‏:‏ وما يشعركم ما يكون منهم، ثم أخبرهم بما علم منهم والخطاب للمؤمنين فإنهم يتمنون مجيء الآية طمعاً في إيمانهم، فنزلت‏.‏ وقيل للمشركين إذ قرأ ابن عامر وحمزة «لا تؤمنون» بالتاء وقرئ «وما يشعرهم أنها إذا جاءتهم» فيكون إنكاراً لهم على حلفهم أي‏:‏ وما يشعرهم أن قلوبهم حينئذٍ لم تكن مطبوعة كما كانت عند نزول القرآن وغيره من الآيات فيؤمنون بها‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏110‏]‏

‏{‏وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ‏(‏110‏)‏‏}‏

‏{‏وَنُقَلّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وأبصارهم‏}‏ عطف على لا يؤمنون أي‏:‏ وما يشعركم أنا حينئذ يقلب أفئدتهم عن الحق فلا يفقهونه، وأبصارهم فلا يبصرونه فلا يؤمنون بها‏.‏ ‏{‏كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ‏}‏ أي بما أنزل من الآيات‏.‏ ‏{‏أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ‏}‏ وندعهم متحيرين لا نهديهم هداية المؤمنين‏.‏ وقرئ‏.‏ «وَيَقَلِّبُ» و«يذرهم» على الغيبة، و«تقلب» على البناء للمفعول والإِسناد إلى الأفئدة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏111‏]‏

‏{‏وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ ‏(‏111‏)‏‏}‏

‏{‏وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الملئكة وَكَلَّمَهُمُ الموتى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَئ قُبُلاً‏}‏ كما اقترحوا فقالوا‏:‏ لولا أنزل علينا الملائكة فأتوا بآياتنا ‏{‏أَوْ تَأْتِيَ بالله والملئكة قَبِيلاً‏}‏ وقبلا جمع قبيل بمعنى كفيل أي‏:‏ كفلاء بما بشروا به وأنذروا به، أو جمع قبيل الذي هو جمع قبيلة بمعنى جماعات، أو مصدر بمعنى مقابلة كقبلا وهو قراءة نافع وابن عامر، وهو على الوجوه حال من كل وإنما جاز ذلك لعمومه‏.‏ ‏{‏وَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ‏}‏ لما سبق عليهم القضاء بالكفر‏.‏ ‏{‏إِلاَّ أَن يَشَاء الله‏}‏ استثناء من أعم الأحوال أي‏:‏ لا يؤمنون في حال من الأحوال إلا حال مشيئة الله تعالى إيمانهم، وقيل منقطع وهو حجة واضحة على المعتزلة‏.‏ ‏{‏ولكن أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ‏}‏ أنهم لو أوتوا بكل آية لم يؤمنوا فيقسمون بالله جهد أيمانهم على ما لا يشعرون، ولذلك أسند الجهل إلى أكثرهم مع أن مطلق الجهل يعمهم، أو ولكن أكثر المسلمين يجهلون أنهم لا يؤمنون فيتمنون نزول الآية طمعاً في إيمانهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏112‏]‏

‏{‏وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ ‏(‏112‏)‏‏}‏

‏{‏وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلّ نِبِىّ عَدُوّاً‏}‏ أي كما جعلنا لك عدواً جعلنا لكل نبي سبقك عدواً، وهو دليل على أن عداوة الكفرة للأنبياء عليهم الصلاة والسلام بفعل الله سبحانه وتعالى وخلقه‏.‏ ‏{‏شياطين الإنس والجن‏}‏ مردة الفريقين، وهو بدل من عدواً، أو أول مفعولي ‏{‏جَعَلْنَا‏}‏ و‏{‏عَدُوّا‏}‏ مفعوله الثاني، ولكل متعلق به أو حال منه‏.‏ ‏{‏يُوحِى بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ‏}‏ يوسوس شياطين الجن إلى شياطين الإِنس، أو بعض الجن إلى بعض، وبعض الإِنس إلى بعض‏.‏ ‏{‏زُخْرُفَ القول‏}‏ الأباطيل المموهة منه من زخرفة إذا زينه‏.‏ ‏{‏غُرُوراً‏}‏ مفعول له أو مصدر في موقع الحال‏.‏ ‏{‏وَلَوْ شَاء رَبُّكَ‏}‏ إيمانهم‏.‏ ‏{‏مَّا فَعَلُوهُ‏}‏ أي ما فعلوا ذلك يعني معاداة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وايحاء الزخارف، ويجوز أن يكون الضمير للايحاء أو الزخرف أو الغرور، وهو أيضاً دليل على المعتزلة‏.‏ ‏{‏فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ‏}‏ وكفرهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏113- 120‏]‏

‏{‏وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ ‏(‏113‏)‏ أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا وَالَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ ‏(‏114‏)‏ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ‏(‏115‏)‏ وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ ‏(‏116‏)‏ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ‏(‏117‏)‏ فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآَيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ ‏(‏118‏)‏ وَمَا لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ ‏(‏119‏)‏ وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ ‏(‏120‏)‏‏}‏

‏{‏وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالأخرة‏}‏ عطف على ‏{‏غُرُوراً‏}‏ إن جعل علة، أو متعلق بمحذوف أي وليكون ذلك ‏{‏جَعَلْنَا لِكُلّ نِبِىّ عَدُوّاً‏}‏‏.‏ والمعتزلة لما اضطروا فيه قالوا‏:‏ اللام لام العاقبة أو لام القسم كسرت لما لم يؤكد الفعل بالنون أو لام الأمر وضعفه أظهر، والصغو‏:‏ الميل والضمير لما له الضمير في فعلوه‏.‏ ‏{‏وَلِيَرْضَوْهُ‏}‏ لأنفسهم‏.‏ ‏{‏وَلِيَقْتَرِفُواْ‏}‏ وليكتسبوا‏.‏ ‏{‏مَا هُم مُّقْتَرِفُونَ‏}‏ من الآثام‏.‏

‏{‏أَفَغَيْرَ الله أَبْتَغِى حَكَماً‏}‏ على إرادة القول أي‏:‏ قل لهم يا محمد أفغير الله أطلب من يحكم بيني وبينكم ويفصل المحق منا من المبطل، و«غير» مفعول ‏{‏أَبْتَغِى‏}‏ و‏{‏حُكْمًا‏}‏ حال منه ويحتمل عكسه، و‏{‏حُكْمًا‏}‏ أبلغ من حاكم ولذلك لا يوصف به غير العادل‏.‏ ‏{‏وَهُوَ الذى أَنَزَلَ إِلَيْكُمُ الكتاب‏}‏ القرآن المعجز‏.‏ ‏{‏مُفَصَّلاً‏}‏ مبيناً فيه الحق والباطل بحيث ينفي التخليط والالتباس‏.‏ وفيه تنبيه على أن القرآن بإعجازه وتقريره مغنٍ عن سائر الآيات‏.‏ ‏{‏والذين ءاتيناهم الكتاب يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مّن رَّبّكَ بالحق‏}‏ تأييد لدلالة الإِعجاز على أن القرآن حق منزل من عند الله سبحانه وتعالى، يعلم أهل الكتاب به لتصديقه ما عندهم مع أنه عليه الصلاة والسلام لم يمارس كتبهم ولم يخالط علماءهم، وإنما وصف جميعهم بالعلم لأن أكثرهم يعلمون ومن لم يعلم فهو متمكن منه بأدنى تأمل‏.‏ وقيل المراد مؤمنو أهل الكتاب‏.‏ وقرأ ابن عامر وحفص عن عاصم ‏{‏مُنَزَّلٌ‏}‏ بالتشديد‏.‏ ‏{‏فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الممترين‏}‏ في أنهم يعلمون ذلك، أو في أنه منزل لجحود أكثرهم وكفرهم به، فيكون من باب التهييج كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ المشركين‏}‏ أو خطاب الرسول صلى الله عليه وسلم لخطاب الأمة‏.‏ وقيل الخطاب لكل أحد على معنى أن الأَدلة لما تعاضدت على صحته فلا ينبغي لأحد أن يمتري فيه‏.‏

‏{‏وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبّكَ‏}‏ بلغت الغاية أخباره وأحكامه ومواعيده‏.‏ ‏{‏صِدْقاً‏}‏ في الأخبار والمواعيد‏.‏ ‏{‏وَعَدْلاً‏}‏ في الأقضية والأحكام ونصبهما يحتمل التمييز والحال والمفعول له‏.‏ ‏{‏لاَ مُبَدّلَ لكلماته‏}‏ لا أحد يبدل شيئاً منها بما هو أصدق وأعدل، أو لا أحد يقدر أن يحرفها شائعاً ذائعاً كما فعل بالتوراة على أن المراد بها القرآن، فيكون ضماناً لها من الله سبحانه وتعالى بالحفظ كقوله‏:‏ ‏{‏وَإِنَّا لَهُ لحافظون‏}‏ أو لا نبي ولا كتاب بعدها ينسخها ويبدل أحكامها‏.‏ وقرأ الكوفيون ويعقوب ‏{‏كلمة ربك‏}‏ أي ما تكلم به أو القرآن‏.‏ ‏{‏وَهُوَ السميع‏}‏ لما يقولون‏.‏ ‏{‏العليم‏}‏ بما يضمرون فلا يهملهم‏.‏

‏{‏وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِى الأرض‏}‏ أي أكثر الناس يريد الكفار، أو الجهال أو أتباع الهوى‏.‏ وقيل الأرض أرض مكة‏.‏ ‏{‏يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ الله‏}‏ عن الطريق الموصل إليه، فإن الضال في غالب الأمر لا يأمر إلا بما فيه ضلال‏.‏

‏{‏إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظن‏}‏ وهو ظنهم أن آباءهم كانوا على الحق، أو جهالاتهم وآراؤهم الفاسدة فإن الظن يطلق على ما يقابل العلم‏.‏ ‏{‏وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ‏}‏ يكذبون على الله سبحانه وتعالى فيما ينسبون إليه كاتخاذ الولد وجعل عبادة الأوثان وصلة إليه، وتحليل الميتة وتحريم البحائر، أو يقدرون أنهم على شيء وحقيقته ما يقال عن ظن وتخمين‏.‏

‏{‏إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَن يَضِلُّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بالمهتدين‏}‏ أي أعلم بالفريقين، و‏{‏مِنْ‏}‏ موصولة أو موصوفة في محل النصب بفعل دل عليه أعلم لا به فإن أفعل لا ينصب الظاهر في مثل ذلك، أو استفهامية مرفوعة بالابتداء والخبر ‏{‏يُضِلَّ‏}‏ والجملة معلق عنها الفعل المقدر‏.‏ وقرئ ‏{‏مَن يَضِلُّ‏}‏ أي يضله الله، فتكون من منصوبة بالفعل المقدر أو مجرورة بإضافة أعلم إليه أي‏:‏ أعلم المضلين من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏مَن يُضْلِلِ الله‏}‏ أو من أضللته إذا وجدته ضالاً، والتفضيل في العلم بكثرته وإحاطته بالوجوه التي يمكن تعلق العلم بها ولزومه وكونه بالذات لا بالغير‏.‏

‏{‏فَكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسم الله عَلَيْهِ‏}‏ مسبب عن إنكار اتباع المضلين الذين يحرمون الحلال ويحللون الحرام، والمعنى كلوا مما ذكر اسم الله على ذبحه لا مما ذكر عليه اسم غيره أو مات حتف أنفه‏.‏ ‏{‏إِن كُنتُم بآياته مُؤْمِنِينَ‏}‏ فإن الإِيمان بها يقتضي استباحة ما أحله الله سبحانه وتعالى واجتناب ما حرمه‏.‏

‏{‏وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسم الله عَلَيْهِ‏}‏ وأي غرض لكم في أن تتحرجوا عن أكله وما يمنعكم عنه‏.‏ ‏{‏وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ‏}‏ مما لم يحرم بقوله‏:‏ ‏{‏حُرّمَتْ عَلَيْكُمُ الميتة‏}‏ وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر ‏{‏فَصْلٌ‏}‏ على البناء للمفعول، ونافع ويعقوب وحفص ‏{‏حَرَّمَ‏}‏ على البناء للفاعل‏.‏ ‏{‏إِلاَّ مَا اضطررتم إِلَيْهِ‏}‏ مما حرم عليكم فإنه أيضاً حلال حال الضرورة‏.‏ ‏{‏وَإِنَّ كَثِيرًا لَّيُضِلُّونَ‏}‏ بتحليل الحرام وتحريم الحلال‏.‏ قرأ الكوفيون بضم الياء والباقون بالفتح‏.‏ ‏{‏بِأَهْوَائِهِم بِغَيْرِ عِلْمٍ‏}‏ بتشبيههم من غير تعلق بدليل يفيد العلم‏.‏ ‏{‏إِنَّ رَّبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بالمعتدين‏}‏ بالمجاوزين الحق إلى الباطل والحلال إلى الحرام‏.‏

‏{‏وَذَرُواْ ظاهر الإثم وَبَاطِنَهُ‏}‏ ما يعلن وما يسر، أو ما بالجوارح وما بالقلب‏.‏ وقيل الزنا في الحوانيت واتخاذ الأخدان‏.‏ ‏{‏إِنَّ الذين يَكْسِبُونَ الإثم سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُواْ يَقْتَرِفُونَ‏}‏ يكتسبون‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏121- 121‏]‏

‏{‏وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ ‏(‏121‏)‏‏}‏

‏{‏وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسم الله عَلَيْهِ‏}‏ ظاهر في تحريم متروك التسمية عمداً أو نسياناً، وإليه ذهب داود وعن أحمد مثله، وقال مالك والشافعي بخلافه لقوله عليه الصلاة والسلام «ذبيحة المسلم حلال وإن لم يذكر اسم الله عليه» وفرق أبو حنيفة رحمه الله بين العمد والنسيان وأوله بالميتة أو بما ذكر غير اسم الله عليه لقوله‏:‏ ‏{‏وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ‏}‏ فإن الفسق ما أهل لغير الله به، والضمير لما ويجوز أن يكون للأكل الذي دل عليه لا تأكلوا‏.‏ ‏{‏وَإِنَّ الشياطين لَيُوحُونَ‏}‏ ليوسوسون‏.‏ ‏{‏إلى أَوْلِيَائِهِمْ‏}‏ من الكفار‏.‏ ‏{‏ليجادلوكم‏}‏ بقولهم تأكلون ما قتلتم أنتم وجوارحكم وتدعون ما قتله الله، وهو يؤيد التأويل بالميتة‏.‏ ‏{‏وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ‏}‏ في استحلال ما حرم‏.‏ ‏{‏إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ‏}‏ فإن من ترك طاعة الله تعالى إلى طاعة غيره واتبعه في دينه فقد أشرك، وإنما حسن حذف الفاء فيه لأن الشرط بلفظ الماضي‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏122- 130‏]‏

‏{‏أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏122‏)‏ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ ‏(‏123‏)‏ وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آَيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ ‏(‏124‏)‏ فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ ‏(‏125‏)‏ وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا قَدْ فَصَّلْنَا الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ ‏(‏126‏)‏ لَهُمْ دَارُ السَّلَامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏127‏)‏ وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ ‏(‏128‏)‏ وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ‏(‏129‏)‏ يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آَيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ ‏(‏130‏)‏‏}‏

‏{‏أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فأحييناه وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِى الناس‏}‏ مثل به من هداه الله سبحانه وتعالى وأنقذه من الضلال وجعل له نور الحجج والآيات يتأمل بها في الأشياء، فيميز بين الحق والباطل والمحق والمبطل‏.‏ وقرأ نافع ويعقوب ‏{‏مَيْتًا‏}‏ على الأصل‏.‏ ‏{‏كَمَن مَّثَلُهُ‏}‏ صفته وهو مبتدأ خبره‏.‏ ‏{‏فِى الظلمات‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏لَيْسَ بِخَارِجٍ مّنْهَا‏}‏ حال من المستكن في الظرف لا من الهاء في مثله للفصل، وهو مثل لمن بقي على الضلالة لا يفارقها بحال‏.‏ ‏{‏كذلك‏}‏ كما زين للمؤمنين إيمانهم‏.‏ ‏{‏زُيّنَ للكافرين مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ‏}‏ والآية نزلت في حمزة وأبي جهل وقيل في عمر أو عمار وأبي جهل‏.‏

‏{‏وكذلك جَعَلْنَا فِي كُلّ قَرْيَةٍ أكابر مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُواْ فِيهَا‏}‏ أي كما جعلنا في مكة أكابر مجرميها ليمكروا فيها جعلنا في كل قرية أكابر مجرميها ليمكروا فيها، و‏{‏جَعَلْنَا‏}‏ بمعنى صيرنا ومفعولاه ‏{‏أكابر مُجْرِمِيهَا‏}‏ على تقديم المفعول الثاني، أو في كل قرية ‏{‏أكابر‏}‏ و‏{‏مُجْرِمِيهَا‏}‏ بدل ويجوز أن يكون مضافاً إليه إن فسر الجعل بالتمكين، وأفعل التفضيل إذا أضيف جاز فيه الإفراد والمطابقة ولذلك قرئ «أكبر مجرميها»، وتخصيص الأكابر لأنهم أقوى على استتباع الناس والمكر بهم‏.‏ ‏{‏وَمَا يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنفُسِهِمْ‏}‏ لأن وباله يحيق بهم‏.‏ ‏{‏وَمَا يَشْعُرُونَ‏}‏ ذلك‏.‏

‏{‏وَإِذَا جَاءتْهُمْ ءايَةٌ قَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ حتى نؤتى مِثْلَ مَا أُوتِىَ رُسُلُ الله‏}‏ يعني كفار قريش لما روي‏:‏ أن أبا جهل قال زاحمنا بني عبد مناف في الشرف حتى إذا صرنا كفرسي رهان قالوا‏:‏ منا نبي يوحي إليه والله لا نرضى به إلا أن يأتينا وحي كما يأتيه، فنزلت‏:‏ ‏{‏الله أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ‏}‏ استئناف للرد عليهم بأن النبوة ليست بالنسب والمال وإنما هي بفضائل نفسانية يخص الله سبحانه وتعالى بها من يشاء من عباده فيجتبي لرسالاته من علم أنه يصلح لها، وهو أعلم بالمكان الذي يضعها فيه‏.‏ وقرأ ابن كثير وحفص عن عاصم ‏{‏رِسَالَتَهُ‏}‏ ‏{‏سَيُصِيبُ الذين أَجْرَمُواْ صَغَارٌ‏}‏ ذل وحقارة بعد كبرهم‏.‏ ‏{‏عَندَ الله‏}‏ يوم القيامة وقيل تقديره من عند الله‏.‏ ‏{‏وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُواْ يَمْكُرُونَ‏}‏ بسبب مكرهم أو جزاء على مكرهم‏.‏

‏{‏فَمَن يُرِدِ الله أَن يَهْدِيَهُ‏}‏ يعرفه طريق الحق ويوفقه للإيمان‏.‏ ‏{‏يَشْرَحْ صَدْرَهُ للإسلام‏}‏ فيتسع له وينفسح فيه مجاله، وهو كناية عن جعل النفس قابلة للحق مهيأة لحلوله فيها مصفاة عما يمنعه وينافيه، وإليه أشار عليه أفضل الصلاة والسلام حين سئل عنه فقال ‏"‏ نور يقذفه الله سبحانه وتعالى في قلب المؤمن فينشرح له وينفسح فقالوا‏:‏ هل لذلك من أمارة يعرف بها فقال‏:‏ نعم الإِنابة إلى دار الخلود والتجافي عن دار الغرور والاستعداد للموت قبل نزوله ‏"‏‏.‏

‏{‏وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيّقاً حَرَجاً‏}‏ بحيث ينبو عن قبول الحق فلا يدخله الإِيمان‏.‏ وقرأ ابن كثير ‏{‏ضَيّقاً‏}‏ بالتخفيف ونافع وأبو بكر عن عاصم حرجاً بالكسر أي شديد الضيق، والباقون بالفتح وصفاً بالمصدر‏.‏ ‏{‏كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِى السماء‏}‏ شبهه مبالغة في ضيق صدره بمن يزاول ما لا يقدر عليه، فإن صعود السماء مثل فيما يبعد عن الاستطاعة، ونبه به على أن الإِيمان يمتنع منه كما يمتنع الصعود‏.‏ وقيل معناه كأنما يتصاعد إلى السماء نبواً عن الحق وتباعداً في الهرب منه، وأصل يصعد يتصعد وقد قرئ به وقرأ ابن كثير ‏{‏يَصْعَدُ‏}‏ وأبو بكر عن عاصم يصاعد بمعنى يتصاعد‏.‏ ‏{‏كذلك‏}‏ أي كما يضيق صدره ويبعد قلبه عن الحق‏.‏ ‏{‏يَجْعَلُ الله الرجس عَلَى الذين لاَ يُؤْمِنُونَ‏}‏ يجعل العذاب أو الخذلان عليهم، فوضع الظاهر موضع المضمر للتعليل‏.‏

‏{‏وهذا‏}‏ إشارة إلى البيان الذي جاء به القرآن، أو إلى الإسلام أو ما سبق من التوفيق والخذلان‏.‏ ‏{‏صراط رَبّكَ‏}‏ الطريق الذي ارتضاه أو عادته وطريقه الذي اقتضته حكمته‏.‏ ‏{‏مُّسْتَقِيماً‏}‏ لا عوج فيه، أو عادلاً مطرداً وهو حال مؤكدة كقوله ‏{‏وَهُوَ الحق مُصَدّقًا‏}‏، أو مقيدة والعامل فيها معنى الإشارة‏.‏ ‏{‏قَدْ فَصَّلْنَا الآيات لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ‏}‏ فيعلمون أن القادر هو الله سبحانه وتعالى وأن كل ما يحدث من خير أو شر فهو بقضائه وخلقه، وأنه عالم بأحوال العباد حكيم عادل فيما يفعل بهم‏.‏

‏{‏لَهُمْ دَارُ السلام‏}‏ دار الله أضاف الجنة إلى نفسه تعظيماً لها، أو دار السلامة من المكاره أو دار تحيتهم فيها سلام‏.‏ ‏{‏عِندَ رَبّهِمْ‏}‏ في ضمانه أو ذخيرة لهم عنده لا يعلم كنهها غيره‏.‏ ‏{‏وَهُوَ وَلِيُّهُم‏}‏ مواليهم أو ناصرهم‏.‏ ‏{‏بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ‏}‏ بسبب أعمالهم أو متوليهم بجزائها فيتولى إيصاله إليهم‏.‏

‏{‏وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً‏}‏ نصب باضمار اذكر أو نقول، والضمير لمن يحشر من الثقلين‏.‏ وقرأ حفص عن عاصم وروح عن يعقوب ‏{‏يَحْشُرُهُمْ‏}‏ بالياء‏.‏ ‏{‏كَانُواْ يَعْبُدُونَ الجن‏}‏ يعني الشياطين‏.‏ ‏{‏قَدِ استكثرتم مّنَ الإنس‏}‏ أي من إغوائهم وإضلالهم، أو منهم جعلتموهم أتباعكم فحشروا معكم كقوله استكثر الأمير من الجنود‏.‏ ‏{‏وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُم مّنَ الإنس‏}‏ الذين أطاعوهم‏.‏ ‏{‏رَبَّنَا استمتع بَعْضُنَا بِبَعْضٍ‏}‏ أي انتفع الإنس بالجن بأن دلوهم على الشهوات وما يتوصل به إليها، والجن بالإِنس بأن أطاعوهم وحصلوا مرادهم‏.‏ وقيل استمتاع الإنس بهم أنهم كانوا يعوذون بهم في المفاوز وعند المخاوف، واستمتاعهم بالإنس اعترافهم بأنهم يقدرون على إجارتهم‏.‏ ‏{‏وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الذى أَجَّلْتَ لَنَا‏}‏ أي البعث وهو اعتراف بما فعلوه من طاعة الشيطان واتباع الهوى وتكذيب البعث وتحسر على حالهم‏.‏ ‏{‏قَالَ النار مَثْوَاكُمْ‏}‏ منزلكم أو ذات مثواكم‏.‏ ‏{‏خالدين فِيهَا‏}‏ حال والعامل فيها مثواكم إن جعل مصدراً، ومعنى الإضافة إن جعل مكاناً ‏{‏إِلاَّ مَا شَاء الله‏}‏ إلا الأوقات التي ينقلون فيها من النار إلى الزمهرير وقيل ‏{‏إِلاَّ مَا شَاء الله‏}‏ قبل الدخول كأنه قيل‏:‏ النار مَثْوَاكُمْ أبداً إلا ما أمهلكم‏.‏

‏{‏إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ‏}‏ في أفعاله‏.‏ ‏{‏عَلِيمٌ‏}‏ بأعمال الثقلين وأحوالهم‏.‏

‏{‏وكذلك نُوَلّى بَعْضَ الظالمين بَعْضاً‏}‏ نكل بعضهم إلى بعض، أو نجعل بعضهم يتولى بعضاً فيغويهم أولياء بعض وقرناءهم في العذاب كما كانوا في الدنيا‏.‏ ‏{‏بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ‏}‏ من الكفر والمعاصي‏.‏

‏{‏يامعشر الجن والإنس أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مّنْكُمْ‏}‏ الرسل من الإِنس خاصة، لكن لما جمعوا مع الجن في الخطاب صح ذلك ونظيره ‏{‏يَخْرُجُ مِنْهُمَا الُّلؤْلُؤُ وَالمَرْجَانُ‏}‏ والمرجان يخرج من الملح دون العذب وتعلق بظاهره قوم وقالوا بعث إلى كل من الثقلين رسل من جنسهم‏.‏ وقيل الرسل من الجن رسل الرسل إليهم لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَّوْاْ إلى قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ‏}‏ ‏{‏يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتي وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هذا‏}‏ يعني يوم القيامة‏.‏ ‏{‏قَالُواْ‏}‏ جواباً‏.‏ ‏{‏شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا‏}‏ بالجرم والعصيان وهو اعتراف منهم بالكفر واستيجاب العذاب‏.‏ ‏{‏وَغَرَّتْهُمُ الحياة الدنيا وَشَهِدُواْ عَلَى أَنفُسهم أَنَّهُمْ كَانُواْ كافرين‏}‏ ذم لهم على سوء نظرهم وخطأ رأيهم، فإنهم اغتروا بالحياة الدنيوية واللذات المخدجة، وأعرضوا عن الآخرة بالكلية حتى كان عاقبة أمرهم أن اضطروا إلى الشهادة على أنفسهم بالكفر والاستسلام للعذاب المخلد تحذير للسامعين مثل حالهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏131‏]‏

‏{‏ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ ‏(‏131‏)‏‏}‏

‏{‏ذلك‏}‏ إشارة إلى إرسال الرسل، وهو خبر مبتدأ محذوف أي الأمر ذلك‏.‏ ‏{‏أَن لَّمْ يَكُنْ رَّبُّكَ مُهْلِكَ القرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غافلون‏}‏ تعليل للحكم وأن مصدرية أو مخففة من الثقيلة أي‏:‏ الأمر لانتفاء كون ربك أو لأن الشأن لم يكن ربك مهلك أهل القرى بسبب ظلم فعلوه، أو ملتبسين بظلم أو ظالماً وهم غافلون لم ينبهوا برسول أو بدل من ذلك‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏132‏]‏

‏{‏وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ ‏(‏132‏)‏‏}‏

‏{‏وَلِكُلّ‏}‏ من المكلفين‏.‏ ‏{‏درجات‏}‏ مراتب ‏{‏مّمَّا عَمِلُواْ‏}‏ من أعمالهم أو من جزائها، أو من أجلها ‏{‏وَمَا رَبُّكَ بغافل عَمَّا يَعْمَلُونَ‏}‏ فيخفى عليه عمل أو قدر ما يستحق به من ثواب أو عقاب‏.‏ وقرأ ابن عامر بالتاء على تغليب الخطاب على الغيبة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏133‏]‏

‏{‏وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آَخَرِينَ ‏(‏133‏)‏‏}‏

‏{‏وَرَبُّكَ الغنى‏}‏ عن العباد والعبادة‏.‏ ‏{‏ذُو الرحمة‏}‏ يترحم عليهم بالتكليف تكميلاً لهم ويمهلهم على المعاصي، وفيه تنبيه على أن ما سبق ذكره من الإرسال ليس لنفعه بل لترحمه على العباد وتأسيس لما بعده وهو قوله‏:‏ ‏{‏إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ‏}‏ أي ما به إليكم حاجة ‏{‏إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ‏}‏ أيها العصاة‏.‏ ‏{‏وَيَسْتَخْلِفْ مِن بَعْدِكُم مَّا يَشَاء‏}‏ من الخلق‏.‏ ‏{‏كَمَا أَنشَأَكُمْ مّن ذُرّيَّةِ قَوْمٍ ءاخَرِينَ‏}‏ أي قرنا بعد قرن لكنه أنبأكم ترحماً عليكم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏134- 140‏]‏

‏{‏إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآَتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ ‏(‏134‏)‏ قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ ‏(‏135‏)‏ وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلَا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ ‏(‏136‏)‏ وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ ‏(‏137‏)‏ وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لَا يَطْعَمُهَا إِلَّا مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لَا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِرَاءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ ‏(‏138‏)‏ وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ ‏(‏139‏)‏ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلَادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ ‏(‏140‏)‏‏}‏

‏{‏إِنَّمَا تُوعَدُونَ‏}‏ من البعث وأحواله‏.‏ ‏{‏لأَتٍ‏}‏ لكائن لا محالة‏.‏ ‏{‏وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ‏}‏ طالبكم به‏.‏ ‏{‏قُلْ ياقوم اعملوا على مَكَانَتِكُمْ‏}‏ على غاية تمكنكم واستطاعتكم يقال مكن مكانة إذا تمكن أبلغ التمكن، أو على ناحيتكم وجهتكم التي أنتم عليها من قولهم مكان ومكانة كمقام ومقامة‏.‏ وقرأ أبو بكر عن عاصم «مكاناتكم» بالجمع في كل القرآن وهو أمر تهديد، والمعنى‏:‏ اثبتوا على كفركم وعداوتكم‏.‏ ‏{‏إِنّى عامل‏}‏ ما كنت عليه من المصابرة والثبات على الإسلام، والتهديد بصيغة الأمر مبالغة في الوعيد كأن المهدد يريد تعذيبه مجمعاً عليه فيحمله بالأمر على ما يفضي به، إليه، وتسجيل بأن المهدد لا يتأتى منه إلا الشر كالمأمور به الذي لا يقدر أن ينقضي عنه‏.‏ ‏{‏فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن تَكُونُ لَهُ عاقبة الدار‏}‏ إن جعل ‏{‏مِنْ‏}‏ استفهامية بمعنى أينا تكون له عاقبة الدار الحسنى التي خلق الله لها هذه الدار، فمحلها الرفع وفعل العلم معلق عنه وإن جعلت خبرية فالنصب ب ‏{‏تَعْلَمُونَ‏}‏ أي فسوف تعرفون الذي تكون له عاقبة الدار، وفيه مع الإِنذار إنصاف في المقال وحسن الأدب، وتنبيه على وثوق المنذر بأنه محق‏.‏ وقرأ حمزة والكسائي «يكون» بالياء لأن تأنيث العاقبة غير حقيقي‏.‏ ‏{‏إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظالمون‏}‏ وضع الظالمين موضع الكافرين لأنه أعم وأكثر فائدة‏.‏

‏{‏وَجَعَلُواْ‏}‏ أي مشركوا العرب‏.‏ ‏{‏لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ‏}‏ خلق‏.‏ ‏{‏مِنَ الحرث والأنعام نَصِيباً فَقَالُواْ هذا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وهذا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلاَ يَصِلُ إِلَى الله وَمَا كَانَ‏}‏ روي‏:‏ أنهم كانوا يعينون شيئاً‏؟‏ من حرث ونتائج لله ويصرفونه إلى الضيفان والمساكين، وشيئاً منهما لآلهتهم وينفقونه على سدنتها ويذبحونه عندها، ثم إن رأوا ما عينوا لله أزكى بدلوه بما لآلهتهم وإن رأوا ما لآلهتهم أزكى تركوه لها حباً لآلهتهم‏.‏ وفي قوله ‏{‏مِمَّا ذَرَأَ‏}‏ تنبيه على فرط جهالتهم فإنهم أشركوا الخالق في خلقه جماداً لا يقدر على شيء، ثم رجحوه عليه بأن جعلوا الزاكي له، وفي قوله ‏{‏بِزَعْمِهِمْ‏}‏ تنبيه على أن ذلك مما اخترعوه لم يأمرهم الله به‏.‏ وقرأ الكسائي بالضم في الموضعين وهو لغة فيه وقد جاء فيه الكسر أيضاً كالود والود‏.‏ ‏{‏سَاء مَا يَحْكُمُونَ‏}‏ حكمهم هذا‏.‏

‏{‏وكذلك‏}‏ ومثل ذلك للتزيين في قسمة القربان‏.‏ ‏{‏زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مّنَ المشركين قَتْلَ أولادهم‏}‏ بالوأد ونحرهم لآلهتهم‏.‏ ‏{‏شُرَكَاؤُهُمْ‏}‏ من الجن أو من السدنة، وهو فاعل ‏{‏زُيّنَ‏}‏‏.‏ وقرأ ابن عامر ‏{‏زُيّنَ‏}‏ على البناء للمفعول الذي هو القتل ونصب الأولاد وجر الشركاء بإضافة القتل إليه مفصولاً بينهما بمفعوله وهو ضعيف في العربية معدود من ضرورات الشعر كقوله‏:‏

فَزَجَجْتُهَا بِمَزَجَة *** زَجَّ القلوصِ أَبِي مُزَادَه

وقرئ بالبناء للمفعول وجر أولادهم ورفع شركاؤهم بإضمار فعل دل عليه ‏{‏زُيّنَ‏}‏‏.‏

‏{‏لِيُرْدُوهُمْ‏}‏ ليهلكوهم بالإِغواء‏.‏ ‏{‏وَلِيَلْبِسُواْ عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ‏}‏ وليخلطوا عليهم ما كانوا عليه من دين اسماعيل، أو ما وجب عليهم أن يتدينوا به واللام للتعليل إن كان التزيين من الشياطين والعاقبة إن كان من السدنة‏.‏ ‏{‏وَلَوْ شَاء الله مَا فَعَلُوهُ‏}‏ ما فعل المشركون ما زين لهم، أو الشركاء التزيين أو الفريقان جميع ذلك‏.‏ ‏{‏فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ‏}‏ افتراءهم أو ما يفترونه من الإِفك‏.‏

‏{‏وَقَالُواْ هذه‏}‏ إشارة إلى ما جعل لآلهتهم‏.‏ ‏{‏أنعام وَحَرْثٌ حِجْرٌ‏}‏ حرام فعل بمعنى مفعول، كالذبح يستوي فيه الواحد والكثير والذكر والأنثى‏.‏ وقرئ ‏{‏حِجْرٍ‏}‏ بالضم وحرج أي مضيق‏.‏ ‏{‏لاَّ يَطْعَمُهَا إِلاَّ مَن نَّشَاء‏}‏ يعنون خدم الأوثان والرجال دون النساء‏.‏ ‏{‏بِزَعْمِهِمْ‏}‏ من غير حجة‏.‏ ‏{‏وأنعام حُرّمَتْ ظُهُورُهَا‏}‏ يعني البحائر والسوائب والحوامي‏.‏ ‏{‏وأنعام لاَّ يَذْكُرُونَ اسم الله عَلَيْهَا‏}‏ في الذبح وإنما يذكرون أسماء الأصنام عليها، وقيل لا يحجون على ظهورها‏.‏ ‏{‏افتراء عَلَيْهِ‏}‏ نصب على المصدر لأن ما قالوا تقول على الله سبحانه وتعالى، والجار متعلق ب ‏{‏قَالُواْ‏}‏ أو بمحذوف هو صفة له أو على الحال، أو على المفعول له والجار متعلق به أو بالمحذوف‏.‏ ‏{‏سَيَجْزِيهِم بِمَا كَانُواْ يَفْتَرُونَ‏}‏ بسببه أو بدله‏.‏

‏{‏وَقَالُواْ مَا فِى بُطُونِ هذه الأنعام‏}‏ يعنون أجنة البحائر والسوائب‏.‏ ‏{‏خَالِصَةٌ لِّذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ على أزواجنا‏}‏ حلال للذكور خاصة دون الإِناث إن ولد حيًا لقوله‏:‏ ‏{‏وَإِن يَكُن مَّيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاء‏}‏ فالذكور والإِناث فيه سواء وتأنيث الخالصة للمعنى فإن ما في معنى الأجنة ولذلك وافق عاصم في رواية أبي بكر بن عامر في تكن بالتاء، وخالفه هو وابن كثير في ‏{‏مَيْتَةً‏}‏ فنصب كغيرهم، أو التاء فيه للمبالغة كما في رواية الشعر أو هو مصدر كالعافية وقع موقع الخالص‏.‏ وقرئ بالنصب على أنه مصدر مؤكد والخبر ‏{‏لِّذُكُورِنَا‏}‏، أو حال من الضمير الذي في الظرف لا من الذي في ذكورنا ولا من الذكور لأنها لا تتقدم على العامل المعنوي ولا على صاحبها المجرور‏.‏ وقرئ «خالصن» بالرفع والنصب و‏{‏خَالِصَةٌ‏}‏ بالرفع والإِضافة إلى الضمير على أنه بدل من ها أو مبتدأ ثان والمراد به ما كان حياً، والتذكير في فيه لأن المراد بالميتة ما يعم الذكر والأنثى فغلب الذكر‏.‏ ‏{‏سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ‏}‏ أي جزاء وصفهم الكذب على الله سبحانه وتعالى في التحريم والتحليل من قوله‏:‏ ‏{‏وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الكذب‏}‏ ‏{‏إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ‏}‏‏.‏

‏{‏قَدْ خَسِرَ الذين قَتَلُواْ أولادهم‏}‏ يريد بهم العرب الذين كانوا يقتلون بناتهم مخافة السبي والفقر‏.‏ وقرأ ابن كثير وابن عامر ‏{‏قاتلوا‏}‏ بالتشديد بمعنى التكثير‏.‏ ‏{‏سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ‏}‏ لخفة عقلهم وجهلهم بأن الله سبحانه وتعالى رازق أولادهم لا هم، ويجوز نصبه على الحال أو المصدر‏.‏ ‏{‏وَحَرَّمُواْ مَا رَزَقَهُمُ الله‏}‏ من البحائر ونحوها‏.‏ ‏{‏افتراء عَلَى الله‏}‏ يحتمل الوجوه المذكورة في مثله‏.‏ ‏{‏قَدْ ضَلُّواْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ‏}‏ إلى الحق والصواب‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏141‏]‏

‏{‏وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآَتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ ‏(‏141‏)‏‏}‏

‏{‏وَهُوَ الذى أَنشَأَ جنات‏}‏ من الكروم‏.‏ ‏{‏معروشات‏}‏ مرفوعات على ما يحملها‏.‏ ‏{‏وَغَيْرَ معروشات‏}‏ ملقيات على وجه الأرض‏.‏ وقيل المعروشات ما غرسه الناس فعرشوه وغير معروشات ما نبت في البراري والجبال‏.‏ ‏{‏والنخل والزرع مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ‏}‏ ثمره الذي يؤكل في الهيئة والكيفية، والضمير للزرع والباقي مقيس عليه، أو النخل والزرع داخل في حكمه لكونه معطوفاً عليه، أو للجميع على تقدير أكل ذلك أو كل واحد منهما ومختلفاً حالاً مقدرة لأنه لم يكن ذلك عند الإِنشاء‏.‏ ‏{‏والزيتون والرمان متشابها وَغَيْرَ متشابه‏}‏ يتشابه بعض أفرادهما في اللون والطعم ولا يتشابه بعضها‏.‏ ‏{‏كُلُواْ مِن ثَمَرِهِ‏}‏ من ثمر كل واحد من ذلك‏.‏ ‏{‏إِذَا أَثْمَرَ‏}‏ وإن لم يدرك ولم يينع بعد‏.‏ وقيل فائدته رخصة المالك في الأكل منه قبل أداء حق الله تعالى‏.‏ ‏{‏وَهُوَ الذى أَنشَأَ جنات‏}‏ يريد به ما كان يتصدق به يوم الحصاد لا الزكاة المقدرة لأنها فرضت بالمدينة والآية مكية‏.‏ وقيل الزكاة والآية مدنية والأمر بإيتائها يوم الحصاد ليهتم به حينئذ حتى لا يؤخر عن وقت الأداء وليعلم أن الوجوب بالإِدراك لا بالتنقية‏.‏ وقرأ ابن كثير ونافع وحمزة والكسائي ‏{‏حَصَادِهِ‏}‏ بكسر الحاء وهو لغة فيه‏.‏ ‏{‏وَلاَ تُسْرِفُواْ‏}‏ في التصدق كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ البسط‏}‏ ‏{‏إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ المسرفين‏}‏ لا يرتضي فعلهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏142‏]‏

‏{‏وَمِنَ الْأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ‏(‏142‏)‏‏}‏

‏{‏وَمِنَ الأنعام حَمُولَةً وَفَرْشًا‏}‏ عطف على جنات أي وأنشأ من الأنعام ما يحمل الأثقال وما يفرش للذبح، أو ما يفرش المنسوج من شعره وصوفه ووبره‏.‏ وقيل الكبار الصالحة للحمل والصغار الدانية من الأرض مثل الفرش المفروش عليها‏.‏ ‏{‏كُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ الله‏}‏ كلوا مما أحل لكم منه‏.‏ ‏{‏وَلاَ تَتَّبِعُواْ خطوات الشيطان‏}‏ في التحليل والتحريم من عند أنفسكم‏.‏ ‏{‏إِنَهُ لَكُمْ عَدُو مُبِينٌ ظاهر العداوة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏143‏]‏

‏{‏ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آَلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ‏(‏143‏)‏‏}‏

‏{‏ثمانية أزواج‏}‏ بدل من حمولة وفرشاً، أو مفعول كلوا، ولا تتبعوا معترض بينهما أو فعل دل عليه أو حال من ما بمعنى مختلفة أو متعددة والزوج ما معه آخر من جنسه يزاوجه وقد يقال لمجموعهما والمراد الأول‏.‏ ‏{‏مّنَ الضأن اثنين‏}‏ زوجين اثنين الكبش والنعجة، وهو بدل من ثمانية وقرئ «اثنان» على الابتداء‏.‏ و‏{‏الضأن‏}‏ اسم جنس كالإِبل وجمعه ضئين أو جمع ضائن كتاجر وتجر‏.‏ وقرئ بفتح الهمزة وهو لغة فيه‏.‏ ‏{‏وَمِنَ المعز اثنين‏}‏ التيس والعنز، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر ويعقوب بالفتح وهو جمع ماعز كصاحب وصحب وحارس وحرس، وقرئ «المعزى»‏.‏ ‏{‏قُلْ آلذَّكَرَيْنِ‏}‏ ذكر الضأن وذكر المعز‏.‏ ‏{‏حَرَّمَ أَمِ الأنثيين‏}‏ أم أنثييهما ونصب الذكرين والانثيين بحرم ‏{‏أَمَّا اشتملت عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأنثيين‏}‏ أو ما حملت إناث الجنسين ذكراً كان أو أنثى ‏{‏نَبّئُونِي بِعِلْمٍ‏}‏ بأمرٍ معلوم يدل على أن الله تعالى حرم شيئاً من ذلك ‏{‏إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ دعوى التحريم عليه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏144- 145‏]‏

‏{‏وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آَلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهَذَا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ‏(‏144‏)‏ قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏145‏)‏‏}‏

‏{‏وَمِنَ الإبل اثنين وَمِنَ البقر اثنين قُلْ ءآلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأنثيين أَمَّا اشتملت عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأنثيين‏}‏ كما سبق والمعنى إنكار أن الله حرم شيئاً من الأجناس الأربعة ذكراً كان أو أنثى أو ما تحمل إناثها رداً عليهم، فإنهم كانوا يحرمون ذكور الأنعام تارة وإناثها تارة أخرى وأولادها كيف كانت تارة زاعمين أن الله حرمها‏.‏ ‏{‏أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء‏}‏ بل أكنتم شاهدين حاضرين‏.‏ ‏{‏إِذْ وصاكم الله بهذا‏}‏ حين وصاكم بهذا التحريم إذ أنتم لا تؤمنون بنبي فلا طريق لكم إلى معرفة أمثال ذلك إلا المشاهدة والسماع‏.‏ ‏{‏فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى عَلَى الله كَذِبًا‏}‏ فنسب إليه تحريم ما لم يحرم، والمراد كبراؤهم المقررون لذلك، أو عمرو بن لحي بن قمعة المؤسس لذلك‏.‏ ‏{‏لِيُضِلَّ الناس بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ الله لاَ يَهْدِي القوم الظالمين‏}‏‏.‏

‏{‏قُل لا أَجِدُ فِيمَا أُوحِىَ إِلَىَّ‏}‏ أي في القرآن، أو فيما أوحي إلَّي مطلقاً، وفيه تنبيه على أن التحريم إنما يعلم بالوحي لا بالهوى‏.‏ ‏{‏مُحَرَّمًا‏}‏ طعاماً محرماً‏.‏ ‏{‏على طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلا أَن يَكُونَ مَيْتَةً‏}‏ أن يكون الطعام ميتة، وقرأ ابن كثير وحمزة تكون بالتاء لتأنيث الخبر، وقرأ ابن عامر بالياء، ورفع ال ‏{‏مَيْتَةً‏}‏ على أن كان هي التامة وقوله‏:‏ ‏{‏أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا‏}‏ عطف على أن مع ما في حيزه أي‏:‏ إلا وجود ميتة أو دماً مسفوحاً، أي مصبوباً كالدم في العروق لا كالكبد والطحال‏.‏ ‏{‏أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ‏}‏ فإن الخنزير أو لحمه قذر لتعوده أكل النجاسة أو خبيث محنث ‏{‏أَوْ فِسْقًا‏}‏ عطف على لحم خنزير‏.‏ وما بينهما اعتراض للتعليل‏.‏ ‏{‏أُهِلَّ لِغَيْرِ الله بِهِ‏}‏ صفة له موضحة وإنما سمي ما ذبح على اسم الصنم فسقاً لتوغله في الفسق، ويجوز أن يكون فسقاً مفعولاً له من أهل وهو عطف على يكون والمستكن فيه راجع إلى ما رجع إليه المستكن في يكون‏.‏ ‏{‏فَمَنِ اضطر‏}‏ فمن دعته الضرورة‏.‏ ‏{‏فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ‏}‏ لا يؤاخذه، والآية محكمة لأنها تدل على أنه لم يجد فيما أوحي إلى تلك الغاية محرماً غير هذه، وذلك لا ينافي ورود التحريم في شيء آخر فلا يصح الاستدلال بها على نسخ الكتاب بخبر الواحد ولا على حل الأشياء غيرها إلا مع الاستصحاب‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏146‏]‏

‏{‏وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ ‏(‏146‏)‏‏}‏

‏{‏وَعَلَى الذين هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِى ظُفُرٍ‏}‏ كل ماله أصبع الإِبل والسباع والطيور‏.‏ وقيل كل ذي مخلب وحافر وسمي الحافر ظفراً مجازاً ولعل المسبب عن الظلم تعميم التحريم‏.‏ ‏{‏وَمِنَ البقر والغنم حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا‏}‏ الثروب وشحوم الكلى والإِضافة لزيادة الربط‏.‏ ‏{‏إِلاَّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا‏}‏ إلا ما علقت بظهورهما‏.‏ ‏{‏أَوِ الحوايا‏}‏ أو ما اشتمل على الأمعاء جمع حاوية، أو حاوياء كقاصعاء وقواصع، أو حوية كسفينة وسفائن‏.‏ وقيل هو عطف على شحومهما وأو بمعنى الواو‏.‏ ‏{‏أَوْ مَا اختلط بِعَظْمٍ‏}‏ هو شحم الإِلية لاتصالها بالعصعص‏.‏ ‏{‏ذلك‏}‏ التحريم أو الجزاء‏.‏ ‏{‏جزيناهم بِبَغْيِهِمْ‏}‏ بسبب ظلمهم‏.‏ ‏{‏وِإِنَّا لصادقون‏}‏ في الإِخبار أو الوعد والوعيد‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏147‏]‏

‏{‏فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ ‏(‏147‏)‏‏}‏

‏{‏فَإِن كَذَّبُوكَ فَقُل رَّبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ واسعة‏}‏ يمهلكم على التكذيب فلا تغتروا بإمهاله فإنه لا يهمل‏.‏ ‏{‏وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ القوم المجرمين‏}‏ حين ينزل، أو ذو رحمة واسعة على المطيعين وذو بأس شديد على المجرمين، فأقام مقامه ولا يرد بأسه لتضمنه التنبيه على إنزال البأس عليهم مع الدلالة على أنه لازب بهم لا يمكن رده عنهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏148‏]‏

‏{‏سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آَبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ ‏(‏148‏)‏‏}‏

‏{‏سَيَقُولُ الذين أَشْرَكُواْ‏}‏ إخبار عن مستقبل ووقوع مخبره يدل على إعجازه‏.‏ ‏{‏لَوْ شَاء الله مَا أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن شَئ‏}‏ أي لو شاء خلاف ذلك مشيئة ارتضاء كقوله‏:‏ ‏{‏فَلَوْ شَاء لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ‏}‏ لما فعلنا نحن ولا آباؤنا، أرادوا بذلك أنهم على الحق المشروع المرضي عند الله لا الاعتذار عن ارتكاب هذه القبائح بإرادة الله إياها منهم حتى ينهض ذمهم به دليلاً للمعتزلة ويؤيده ذلك قوله‏:‏ ‏{‏كذلك كَذَّبَ الذين مِن قَبْلِهِمْ‏}‏ أي مثل هذا التكذيب لك في أن الله تعالى منع من الشرك ولم يحرم ما حرموه كذب الذين من قبلهم الرسل، وعطف آباؤنا على الضمير في أشركنا من غير تأكيد للفصل بلا‏.‏ ‏{‏حتى ذَاقُواْ بَأْسَنَا‏}‏ الذي أنزلنا عليهم بتكذيبهم‏.‏ ‏{‏قُلْ هَلْ عِندَكُم مّنْ عِلْمٍ‏}‏ من أمر معلوم يصح الاحتجاج به‏.‏ على ما زعمتم‏.‏ ‏{‏فَتُخْرِجُوهُ لَنَا‏}‏ فتظهروه لنا‏.‏ ‏{‏إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظن‏}‏ ما تتبعون في ذلك إلا الظن‏.‏ ‏{‏وَإِنْ أَنتُمْ إِلاَّ تَخْرُصُونَ‏}‏ تكذبون على الله سبحانه وتعالى، وفيه دليل على المنع من اتباع الظن سيما في الأصول، ولعل ذلك حيث يعارضه قاطع إذ الآية فيه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏149‏]‏

‏{‏قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ ‏(‏149‏)‏‏}‏

‏{‏قُلْ فَلِلَّهِ الحجة البالغة‏}‏ البينة الواضحة التي بلغت غاية المتانة والقوة على الإثبات، أو بلغ بها صاحبها صحة دعواه وهي من الحج بمعنى القصد كأنها تقصد إثبات الحكم وتطلبه‏.‏ ‏{‏فَلَوْ شَاء لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ‏}‏ بالتوفيق لها والحمل عليها ولكن شاء هداية قوم وضلال آخرين‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏150‏]‏

‏{‏قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا فَإِنْ شَهِدُوا فَلَا تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ ‏(‏150‏)‏‏}‏

‏{‏قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءكُمُ‏}‏ أحضروهم، وهو اسم فعل لا يتصرف عند أهل الحجاز، وفعل يؤنث ويجمع عند بني تميم وأصله عند البصريين‏:‏ ها لم من لم إذا قصد حذفت الألف لتقدير السكون في اللام فإنه الأصل، وعند الكوفيين هل أم فحذفت الهمزة بإلقاء حركتها على اللام، وهو بعيد لأن هل لا تدخل الأمر ويكون متعدياً كما في الآية ولازماً كقوله هلم إلينا‏.‏ ‏{‏الذين يَشْهَدُونَ أَنَّ الله حَرَّمَ هذا‏}‏ يعني قدوتهم فيه استحضرهم ليلزمهم الحجة ويظهر بانقطاعهم ضلالتهم وأنه لا متمسك لهم كمن يقلدهم، ولذلك قيد الشهداء بالإِضافة ووصفهم بما يقتضي العهد بهم‏.‏ ‏{‏فَإِن شَهِدُواْ فَلاَ تَشْهَدْ مَعَهُمْ‏}‏ فلا تصدقهم فيه وبين لهم فساده فإن تسلميه موافقة لهم في الشهادة الباطلة‏.‏ ‏{‏وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاء الذين كَذَّبُواْ بآياتنا‏}‏ من وضع المظهر موضع المضمر للدلالة على أن مكذب الآيات متبع الهوى لا غير، وأن متبع الحجة لا يكون إلا مصدقاً بها‏.‏ ‏{‏والذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالأخرة‏}‏ كعبدة الأوثان‏.‏ ‏{‏وَهُم بِرَبِهِمْ يَعْدِلُونَ‏}‏ يجعلون له عديلاً‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏151‏]‏

‏{‏قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ‏(‏151‏)‏‏}‏

‏{‏قُلْ تَعَالَوْاْ‏}‏ أمر من التعالي وأصله أن يقوله من كان في علو لمن كان في سفل فاتسع فيه بالتعميم‏.‏ ‏{‏اتل‏}‏ أقرأ‏.‏ ‏{‏مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ‏}‏ منصوب بأتل وما تحتمل الخبرية والمصدرية، ويجوز أن تكون استفهامية منصوبة بحرم والجملة مفعول ‏{‏اتل‏}‏ لأنه بمعنى أقل، فكأنه قيل أتل أي شيء حرم ربكم ‏{‏عَلَيْكُمْ‏}‏ متعلق ب ‏{‏حَرَّمَ‏}‏ أو ‏{‏اتل‏}‏‏.‏ ‏{‏أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ‏}‏ أي لا تشركوا به ليصح عطف الأمر عليه، ولا يمنعه تعليق الفعل المفسر ب ‏{‏مَا حَرَّمَ‏}‏، فإن التحريم باعتبار الأوامر يرجع إلى أضدادها ومن جعل أن ناصبة فمحلها النصب بعليكم على أنه للإِغراء، أو البدل من ‏{‏مَا‏}‏ أو من عائده المحذوف على أن لا زائدة والجر بتقدير اللام، أو الرفع على تقدير المتلو أن لا تشركوا أو المحرم أن تشركوا‏.‏ ‏{‏شَيْئاً‏}‏ يحتمل المصدر والمفعول‏.‏ ‏{‏وبالوالدين إحسانا‏}‏ أي وأحسنوا بهما إحساناً وضعه موضع النهي عن الإِساءة إليهما للمبالغة وللدلالة على أن ترك الإِساءة في شأنهما غير كاف بخلاف غيرهما‏.‏ ‏{‏وَلاَ تَقْتُلُواْ أولادكم مّنْ إملاق‏}‏ من أجل فقر ومن خشية‏.‏ كقوله‏:‏ ‏{‏خَشْيَةَ إملاق‏}‏ ‏{‏نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ‏}‏ منع لموجبية ما كانوا يفعلون لأجله واحتجاج عليه‏.‏ ‏{‏وَلاَ تَقْرَبُواْ الفواحش‏}‏ كبائر الذنوب أو الزنا‏.‏ ‏{‏مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ‏}‏ بدل منه وهو مثل قوله ‏{‏ظاهر الإثم وَبَاطِنَهُ‏}‏ ‏{‏وَلاَ تَقْتُلُواْ النفس التى حَرَّمَ الله إِلاَّ بالحق‏}‏ كالقود وقتل المرتد ورجم المحصن‏.‏ ‏{‏ذلكم‏}‏ إشارة إلى ما ذكر مفصلاً‏.‏ ‏{‏وصاكم بِهِ‏}‏ بحفظه‏.‏ ‏{‏لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ‏}‏ ترشدون فإن كمال العقل هو الرشد‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏152‏]‏

‏{‏وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ‏(‏152‏)‏‏}‏

‏{‏وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ اليتيم إِلاَّ بالتى هِىَ أَحْسَنُ‏}‏ أي بالفعلة التي هي أحسن ما يفعل بماله كحفظه وتثميره‏.‏ ‏{‏حتى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ‏}‏ حتى يصير بالغاً، وهو جمع شدة كنعمة وأنعم أو شد كصر وأصر وقيل مفرد كأنك‏.‏ ‏{‏وَأَوْفُواْ الكيل والميزان بالقسط‏}‏ بالعدل والتسوية‏.‏ ‏{‏لاَ نُكَلّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا‏}‏ إلا ما يسعها ولا يعسر عليها، وذكره عقيب الأمر معناه أن إيفاء الحق عسر عليكم فعليكم بما في وسعكم وما وراءه معفو عنكم‏.‏ ‏{‏وَإِذَا قُلْتُمْ‏}‏ في حكومة ونحوها‏.‏ ‏{‏فاعدلوا‏}‏ فيه‏.‏ ‏{‏وَلَوْ كَانَ ذَا قربى‏}‏ ولو كان المقول له أو عليه من ذوي قرابتكم‏.‏ ‏{‏وَبِعَهْدِ الله أَوْفُواْ‏}‏ يعني ما عهد إليكم من ملازمة العدل وتأدية أحكام الشرع‏.‏ ‏{‏ذلكم وصاكم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ‏}‏ تتعظون به، وقرأ حمزة وحفص والكسائي ‏{‏تَذَكَّرُونَ‏}‏ بتخفيف الذال حيث وقع إذا كان بالتاء والباقون بتشديدها‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏153‏]‏

‏{‏وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ‏(‏153‏)‏‏}‏

‏{‏وَأَنَّ هذا صراطي مُسْتَقِيمًا‏}‏ الإِشارة فيه إلى ما ذكر في السورة فإنها بأسرها في إثبات التوحيد والنبوة وبيان الشريعة‏.‏ وقرأ حمزة والكسائي ‏{‏ءانٍ‏}‏ بالكسر على الاستئناف، وابن عامر ويعقوب بالفتح والتخفيف‏.‏ وقرأ الباقون بها مشددة بتقدير اللام على أنه علة لقوله‏.‏ ‏{‏فاتبعوه‏}‏ وقرأ ابن عامر ‏{‏صراطي‏}‏ بفتح الياء، وقرئ «وهذا صراطي» «وهذا صراط ربكم» «وهذا صراط ربك»‏.‏ ‏{‏وَلاَ تَتَّبِعُواْ السبل‏}‏ الأديان المختلفة أو الطرق التابعة للهوى، فإن مقتضى الحجة واحد ومقتضى الهوى متعدد لاختلاف الطبائع والعادات‏.‏ ‏{‏فَتَفَرَّقَ بِكُمْ‏}‏ فتفرقكم وتزيلكم‏.‏ ‏{‏عَن سَبِيلِهِ‏}‏ الذي هو اتباع الوحي واقتفاء البرهان‏.‏ ‏{‏ذلكم‏}‏ الاتباع‏.‏ ‏{‏وصاكم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ‏}‏ الضلال والتفرق عن الحق‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏154‏]‏

‏{‏ثُمَّ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ ‏(‏154‏)‏‏}‏

‏{‏ثُمَّ ءاتَيْنَا مُوسَى الكتاب‏}‏ عطف على ‏{‏وصاكم‏}‏، وثم للتراخي في الإخبار أو للتفاوت في الرتبة كأنه قيل؛ ذلكم وصاكم به قديماً وحديثاً ثم أعظم من ذلك ‏{‏أَنَّا آتَيْنَا مُوسَى الكتاب‏}‏‏.‏ ‏{‏تَمَامًا‏}‏ للكرامة والنعمة‏.‏ ‏{‏عَلَى الذى أَحْسَنَ‏}‏ على كل من أحسن القيام به، ويؤيده إن قرئ «على الذين أحسنوا» أو «على الذي أحسن تبليغه» وهو موسى عليه أفضل الصلاة والسلام، أو «تماماً على ما أحسنه» أي أجاده من العلم والتشريع أي زيادة على علمه إتماماً له‏.‏ وقرئ بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف أي «على الذي هو أحسن» أو على الوجه الذي هو أحسن ما يكون عليه الكتب‏.‏ ‏{‏وَتَفْصِيلاً لّكُلّ شَئ‏}‏ وبياناً مفصلاً لكل ما يحتاج إليه في الدين، وهو عطف على تمام ونصبهما يحتمل العلة والحال والمصدر‏.‏ ‏{‏وَهُدًى وَرَحْمَةً لَّعَلَّهُم‏}‏ لعل بني إسرائيل‏.‏ ‏{‏بِلِقَاء رَبّهِمْ يُؤْمِنُونَ‏}‏ أي بلقائه للجزاء‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏155- 155‏]‏

‏{‏وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ‏(‏155‏)‏‏}‏

‏{‏وهذا كتاب‏}‏ يعني القرآن‏.‏ ‏{‏أنزلناه مُبَارَكٌ‏}‏ كثير النفع‏.‏ ‏{‏فاتبعوه واتقوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ‏}‏ بواسطة اتباعه وهو العمل بما فيه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏156‏]‏

‏{‏أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ ‏(‏156‏)‏‏}‏

‏{‏أَن تَقُولُواْ‏}‏ كراهة أن تقولوا علة لأنزلناه‏.‏ ‏{‏إِنَّمَا أُنزِلَ الكتاب على طَائِفَتَيْنِ مِن قَبْلِنَا‏}‏ اليهود والنصارى، ولعل الاختصاص في ‏{‏إِنَّمَا‏}‏ لأن الباقي المشهور حينئذ من الكتب السماوية لم يكن غير كتبهم‏.‏ ‏{‏وَإِن كُنَّا‏}‏ إن هي المخففة من الثقيلة ولذلك دخلت اللام الفارقة في خبر كان أي وإنه كنا‏.‏ ‏{‏عَن دِرَاسَتِهِمْ‏}‏ قراءتهم، ‏{‏لغافلين‏}‏ لا ندري ما هي، أو لا تعرف مثلها‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏157‏]‏

‏{‏أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آَيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يَصْدِفُونَ ‏(‏157‏)‏‏}‏

‏{‏أَوْ تَقُولُواْ‏}‏ عطف على الأول‏.‏ ‏{‏لَوْ أَنَّا أُنزِلَ عَلَيْنَا الكتاب لَكُنَّا أهدى مِنْهُمْ‏}‏ لحدة أذهاننا وثقابة أفهامنا ولذلك تلقفنا فنوناً من العلم كالقصص والأشعار والخطب على أنا أميون‏.‏ ‏{‏فَقَدْ جَاءكُمْ بَيّنَةٌ مّن رَّبّكُمْ‏}‏ حجة واضحة تعرفونها‏.‏ ‏{‏وَهُدًى وَرَحْمَةٌ‏}‏ لمن تأمل فيه وعمل به‏.‏ ‏{‏فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَّبَ بآيات الله‏}‏ بعد أن عرف صحتها أو تمكن من معرفتها‏.‏ ‏{‏وَصَدَفَ‏}‏ أعرض أو صد‏.‏ ‏{‏عَنْهَا‏}‏ فضل أو أفضل‏.‏ ‏{‏سَنَجْزِى الذين يَصْدِفُونَ عَنْ آياتنا سُوء العذاب‏}‏ شدته‏.‏ ‏{‏بِمَا كَانُواْ يَصْدِفُونَ‏}‏ بإعراضهم أو صدهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏158‏]‏

‏{‏هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آَيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آَيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آَمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ ‏(‏158‏)‏‏}‏

‏{‏هَلْ يَنظُرُونَ‏}‏ أي ما ينتظرون يعني أهل مكة، وهم ما كانوا منتظرين لذلك ولكن لما كان يلحقهم لحوق المنتظر شبهوا بالمنتظرين‏.‏ ‏{‏إِلا أَن تَأْتِيهُمُ الملائكة‏}‏ ملائكة الموت أو العذاب‏.‏ وقرأ حمزة والكسائي بالياء هنا وفي «النحل»‏.‏ ‏{‏أَوْ يَأْتِىَ رَبُّكَ‏}‏ أي أمره بالعذاب، أو كل آية يعني آيات القيامة والهلاك الكلي لقوله‏:‏ ‏{‏أَوْ يَأْتيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ‏}‏ يعني أشراط الساعة وعن حذيفة بن اليمان والبراء بن عازب‏:‏ ‏(‏كنا نتذاكر الساعة إذ أشرف علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ ما تذاكرون‏؟‏ قلنا‏:‏ نتذاكر الساعة، قال‏:‏ ‏"‏ إنها لا تقوم حتى تروا قبلها عشر آيات‏:‏ الدخان، ودابة الأرض، وخسفاً بالمشرق، وخسفاً بالمغرب، وخسفاً بجزيرة العرب، والدجال، وطلوع الشمس من مغربها، ويأجوج ومأجوج، ونزول عيسى عليه الصلاة والسلام، وناراً تخرج من عدن ‏"‏ ‏{‏يَوْمَ يَأْتِى بَعْضُ ءايات رَبّكَ لاَ يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا‏}‏ كالمحتضر إذ صار الأمر عياناً والإِيمان برهاني‏.‏ وقرئ «تنفع» بالتاء لإِضافة الإِيمان إلى ضمير المؤنث‏.‏ ‏{‏لَمْ تَكُنْ ءامَنَتْ مِن قَبْلُ‏}‏ صفة نفساً‏.‏ ‏{‏أَوْ كَسَبَتْ فِى إيمانها خَيْرًا‏}‏ عطف على ‏{‏ءامَنتُ‏}‏ والمعنى‏:‏ أنه لا ينفع الإِيمان حينئذ نفساً غير مقدمة إيمانها أو مقدمة إيمانها غير كاسبة في إيمانها خيراً، وهو دليل لمن لم يعتبر الإِيمان المجرد عن العمل وللمعتبر تخصيص هذا الحكم بذلك اليوم، وحمل الترديد على اشتراط النفع بأحد الأمرين على معنى لا ينفع نفساً خلت عنها إيمانها، والعطف على لم تكن بمعنى لا ينفع نفساً إيمانها الذي أحدثته حينئذ وإن كسبت فيه خيراً‏.‏ ‏{‏قُلِ انتظروا إِنَّا مُنتَظِرُونَ‏}‏ وعيد لهم، أي‏:‏ انتظروا إتيان أحد الثلاثة فإنا منتظرون له وحينئذ لنا الفوز وعليكم الويل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏159‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ ‏(‏159‏)‏‏}‏

‏{‏إِنَّ الذين فَرَّقُواْ دِينَهُمْ‏}‏ بددوه فآمنوا ببعض وكفروا ببعض، أو افترقوا فيه قال عليه الصلاة والسلام‏:‏ ‏"‏ إفترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة كلها في الهاوية إلا واحدة، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة كلها في الهاوية إلا واحدة، وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة كلها في الهاوية إلا واحدة ‏"‏ وقرأ حمزة والكسائي «فارقوا» أي باينوا‏.‏ ‏{‏وَكَانُواْ شِيَعاً‏}‏ فرقاً تشيع كل فرقة إماماً‏.‏ ‏{‏لَّسْتَ مِنْهُمْ فِى شَئ‏}‏ أي من السؤال عنهم وعن تفرقهم، أو من عقابهم، أو أنت بريء منهم‏.‏ وقيل هو نهي عن التعرض لهم وهو منسوخ بآية السيف‏.‏ ‏{‏إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى الله‏}‏ يتولى جزاءهم‏.‏ ‏{‏ثُمَّ يُنَبّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ‏}‏ بالعقاب‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏160‏]‏

‏{‏مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ‏(‏160‏)‏‏}‏

‏{‏مَن جَاء بالحسنة فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا‏}‏ أي عشر حسنات أمثالها فضلاً من الله‏.‏ وقرأ يعقوب «عشرة» بالتنوين وأمثالها بالرفع على الوصف‏.‏ وهذا أقل ما وعد من الأضعاف وقد جاء الوعد بسبعين وسبعمائة وبغيرِ حساب ولذلك قيل‏:‏ المراد بالعشر الكثرة دون العدد‏.‏ ‏{‏وَمَن جَاء بالسيئة فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا‏}‏ قضية للعدل‏.‏ ‏{‏وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ‏}‏ بنقص الثواب وزيادة العقاب‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏161- 161‏]‏

‏{‏قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ‏(‏161‏)‏‏}‏

‏{‏قُلْ إِنَّنِى هَدَانِى رَبّى إلى صراط مُّسْتَقِيمٍ‏}‏ بالوحي والإِرشاد إلى ما نصب من الحجج‏.‏ ‏{‏دِينًا‏}‏ بدل من محل إلى صراط إذ المعنى، هداني صراطاً كقوله‏:‏ ‏{‏وَيَهْدِيَكُمْ صراطا مُّسْتَقِيماً‏}‏ أو مفعول فعل مضمر دل عليه الملفوظ‏.‏ ‏{‏قَيِّماً‏}‏ فعل من قام كسيد من ساد وهو أبلغ من المستقيم باعتبار الزنة والمستقيم باعتبار الصيغة‏.‏ وقرأ ابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي ‏{‏قَيِّماً‏}‏ على أنه مصدر نعت به وكان قياسه قوماً كعوض فاعل لإِعلال فعله كالقيام‏.‏ ‏{‏مِلَّةِ إبراهيم‏}‏ عطف بيان لدينا‏.‏ ‏{‏حَنِيفاً‏}‏ حال من إبراهيم‏.‏ ‏{‏وَمَا كَانَ مِنَ المشركين‏}‏ عطف عليه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏162- 163‏]‏

‏{‏قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ‏(‏162‏)‏ لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ ‏(‏163‏)‏‏}‏

‏{‏قُلْ إِنَّ صَلاَتِى وَنُسُكِى‏}‏ عبادتي كلها، أو قرباني أو حجي‏.‏ ‏{‏وَمَحْيَاىَ وَمَمَاتِى‏}‏ وما أنا عليه في حياتي وأموت عليه من الإِيمان والطاعة، أو طاعات الحياة والخيرات المضافة إلى الممات كالوصية والتدبير، أو الحياة والممات أنفسهما‏.‏ وقرأ نافع ‏{‏محياي‏}‏ بإسكان الياء إجراء للوصل مجرى الوقف‏.‏ ‏{‏للَّهِ رَبّ العالمين لاَ شَرِيكَ لَهُ‏}‏ خالصة له لا أشرك فيها غيراً‏.‏ ‏{‏وبذلك‏}‏ القول أو الإِخلاص‏.‏ ‏{‏أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ المسلمين‏}‏ لأن إسلام كل نبي متقدم على إسلام أمته‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏164- 164‏]‏

‏{‏قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ‏(‏164‏)‏‏}‏

‏{‏قُلْ أَغَيْرَ الله أَبْغِى رَبّا‏}‏ فأشركه في عبادتي وهو جواب عن دعائهم له إلى عبادة آلهتهم‏.‏ ‏{‏وَهُوَ رَبُّ كُلّ شَئ‏}‏ حال في موضع العلة للإنكار والدليل له أي وكل ما سواه مربوب مثلي لا يصلح للربوبية‏.‏ ‏{‏وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا‏}‏ فلا ينفعني في ابتغاء رب غيره ما أنتم عليه من ذلك‏.‏ ‏{‏وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى‏}‏ جواب عن قولهم‏:‏ ‏{‏اتبعوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خطاياكم‏}‏ ‏{‏ثُمَّ إلى رَبّكُمْ مَّرْجِعُكُمْ‏}‏ يوم القيامة‏.‏ ‏{‏فَيُنَبّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ‏}‏ بتبيين الرشد من الغي وتمييز المحق من المبطل‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏165- 165‏]‏

‏{‏وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آَتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏165‏)‏‏}‏

‏{‏وَهُوَ الذى جَعَلَكُمْ خلائف الأرض‏}‏ يخلف بعضكم بعضاً، أو خلفاء الله في أرضه تتصرفون فيها على أن الخطاب عام، أو خلفاء الأمم السالفة على أن الخطاب للمؤمنين‏.‏ ‏{‏وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ درجات‏}‏ في الشرف والغنى‏.‏ ‏{‏لِيَبْلُوَكُمْ فِيمَا ءاتاكم‏}‏ من الجاه والمال‏.‏ ‏{‏إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ العقاب‏}‏ لأن ما هو آت قريب أو لأنه يسرع إذا أراده‏.‏ ‏{‏وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ‏}‏ وصف العقاب ولم يضفه إلى نفسه، ووصف ذاته بالمغفرة وضم إليه الوصف بالرحمة، وأتى ببناء المبالغة واللام المؤكدة تنبيهاً على أنه تعالى غفور بالذات معاقب بالعرض كثير الرحمة مبالغ فيها كثير العقوبة مسامح فيها‏.‏ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «أنزلت عليَّ سورة الأنعام جملة واحدة، يشيعها سبعون ألف ملك لهم زجل بالتسبيح والتحميد، فمن قرأ الأنعام صلى عليه واستغفر له أولئك السبعون ألف ملك بعدد كل آية من سورة الأنعام يوماً وليلة»‏.‏